أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

 

تنبثق أهميَّة هذا المقال من كونه يؤسِّس لدارسة علميَّة متأنية، تعتمد الموضوعيَّة في البحث والتَّدقيق، بعيدًا عن التّعصبيَّة للمذهب أو الطَّائفة؛ لأنَّها تمسُّ جوهرًا من جواهر المصادر التَّشريعيَّة التي درج عليها أهل العلم، يستنبطون منها أحكامهم، وفتواهم، هذا الجوهر الذي خالطته شوائب السِّياسة، ونزعات الهوى الطَّائفية، وحبُّ الانتصار المذهبيَّة، ممَّا جعلنا أمام اختلافات مذهبيَّة كبيرة، حتى في الطَّائفة نفسها، إذا نحِّينا المغالين منهم.

ومَن يتصدَّى لمثل هذه الدِّراسة فإنَّه يحتاج إلى جرأة يتميَّز بها صاحبها؛ لأنَّها قد تكون نقطة تحوِّل كبيرة في المنهج التَّعليميّ الدِّيني المتَّبع، وقد يكون إرهاصًا لبوابة علميَّة جديدة، تُعيد «الإسلام» إلى وجهه الصَّحيح الذي أُنزل «القرآن» تبيينًا له وإفصاحًا عن تعاليمه وتشريعه.

ولا ندَّعي هنا فضلاً أو مزيةً، ولا نمثِّل انتماء لمذهب، أو تعصُّب لطائفة؛ بل نؤكّد رجحان العقل فيما وصل من النَّقل في أمَّات الكتب التي زخرت بها مكتبتنا، على اختلاف تصانيفها، من كتب «التَّراجم» و«التَّاريخ» و«الجرح والتَّعديل» وغيرها. كتبٌ تناولت بين ثناياها إشارات ليست بالقليلة عمَّا جرحته «السِّياسة الإسلاميَّة» في بعض عصورها، وألصقته بـ«الدِّين»، حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ منه، وعدَّه المتعصِّبون عدا المغالين منهم ركنًا مقدَّسًا لا يجوز المساس به، أو الاقتراب من عرينه، متذرِّعين في عامَّة حجَّتهم أنَّه «إجماع الأمَّة»، ولا مجال لمخالفته، وإن كان على غير الصَّحيح من القول والعمل، متجاهلين أنَّ «القرآن الكريم» قدوتنا ومرجعنا عند تضارب «الحديث» ومخالفته لوقائع «التَّاريخ» أو معطيات «العلم».

وكما أشرتُ في بداية المقال، لن تكون هذه الكلمات إلا بوَّابةً لفتح الطَّريق للبحث العلميِّ المتَّسم بالمنهجيّة العلميَّة والنقديَّة بمعاييرها وأصولها، وسأكتفي بإيراد بعض ما وقعتُ عليه من إشارات في أمَّات كتبنا، ومحاولة الكشف عن حقيقة ذلك، وترجيح ما كان سببًا في وجوده.

وحتى لا نكون بِدْعًا من الباحثين والكتَّاب من الاقتراب من قدسيَّة «الحديث» عند بعض من أقفلَ عقله، وأعمَى بصره، نؤكِّدُ أنَّ «الحديث النَّبويّ» كان مثار جدل عند علماء «اللُّغة والنَّحو» في تأصيل قواعد «اللُّغة العربيَّة»، واختلفوا في جواز الاحتجاج به من عدمه على ثلاثة مذاهب:
الأوَّل: أجاز الاستشهاد بـ«الحديث النّبويّ» مطلقاً، وعلى رأسهم «ابن مالك».
الثَّاني: وقف موقف المعتدل الوسط في الاستشهاد، وعلى رأسهم «ابن الشَّاطبيّ».
الثَّالث: لم يُجَوِّز الاستشهاد به مطلقاً، وعلى رأسهم «أبو حيَّان»، متابعًا في ذلك شيخه «أبا الحسن بن الضَّائع»، وقد علَّل أصحاب هذا المذهب رأيهم بسببين:

الأوَّل: أنَّ «الرّواة» جوّزوا النَّقل بالمعنى، فنجد قصَّة واحدة قد جرت في زمانه، فقال فيه لفظاً واحداً فنُقل بأنواع من الألفاظ بحيث يجزم الإنسان بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ، نحو ما روي من قوله: «زوجتكها بما معك من القرآن»، و«ملكتها بما معك»، وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصَّة، فنعلم قطعاً أنَّه لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ؛ بل لا نجزم بأنَّه قال بعضها، إذ يحتمل أنَّه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرُّواة بالمرادف إذ هو جائز عندهم النَّقل بالمعنى، ولم يأتوا بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيَّما مع تقادم السَّماع وعدم ضبط المعنى.

د. محمد عناد سليمان

وأما ضبط اللَّفظ فبعيد جدًّا، لا سيَّما في الأحاديث الطِّوال التي لم يسمعها الرَّاوي إلا مرَّة واحدة، ولم تُملَ عليه فيكتبها. وقد قال «سفيان الثّوري» فيما نُقل عنه: «إن قلتُ لكم إنِّي أحدِّثكم كما سمعتُ، فلا تصدِّقوني إنَّما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنَّهم يروون بالمعنى».

الثَّاني: أنَّه وقع «اللَّحن» كثيراً فيما روي من «الحديث»؛ لأنَّ كثيراً من «الرُّواة »كانوا غير عرب بالطَّبع، ولا تعلَّموا لسان العرب بصناعة «النَّحو» فوقع «اللَّحن» في نقلهم، وهم لا يعلمون ذلك، ووقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب.

وعلم قطعاً غير شكٍّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح النَّاس، فلم يكن ليتكلَّم إلا بأفصح اللُّغات، وأحسن التَّراكيب، وأشهرها، وأجزلها، وإذا تكلَّم بلغة غير لغته فإنمَّا يتكلَّم بذلك مع أهل تلك اللُّغة على طريقة الإعجاز، وتعليم الله ذلك من غير معلِّم إنسانيّ ولا ملقّن لها من أهلها كحديثه مع «النَّمر بن تولب»، ومع الوافدين عليه من غير أهل لغته.

ولله درُّ «أبي عبد الله ابن الأعرابي» رحمه الله فإنَّه مرَّ على قوم من «الزَّنادقة» وهم يتطلَّبون على زعمهم في «القرآن» لحناً فقال لهم: «ويلكم هَبْكُم شككتم في كونه نبياً، أتشكُّون في كونه عربياً؟»

وقد بيَّن «أبو حيَّان» سبب توضيحه لهذا الرَّأي فقال: «وإنَّما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتديء: ما بال النَّحوييِّن يستدلُّون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلُّون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبُخاري ومسلم وأضرابهما؟ فإذا طالع ما ذكرناه أدرك السَّبب الذي لأجله لم يستدل النُّحاة بالحديث».

وتابع «السُّيوطيُّ» «أبا حيَّان» في مذهبه هذا فقال عند كلامه على قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا قومك حديثو عهد بكفر، لأسَّست البيت على قواعد إبراهيم»: «والظَّاهر أنَّ الحديث حرَّفته «الرُّواة بدليل أنَّ في بعض رواياته: «لولا حدثان قومك»، وهذا جارٍ على القاعدة».

وأجمل ذلك في «السُّيوطيّ» بقوله: «لا يُستدلُّ بالحديث على ما خالف القواعد النَّحويَّة؛ لأنَّه مرويٌّ بالمعنى، لا بلفظ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث رواها العجم، والمولَّدون، لا مَنْ يُحسن العربيَّة، فأدُّوها على قدر ألسنتهم.

فإذا كان هذا هو حال «الحديث» في تأصيل قواعد «العربيَّة» في «النحَّو»، فكيف هو حاله في تأصيل مسائل «الفقه»، و«أحكام الفتاوى»؟ وإذا كان علَّة «النَّحويين» ظاهرة جليَّة، فما بال حجَّة علماء الحديث أنفسهم غامضةً مظلمة؟ ولعلَّ سبب اختلاف الفقهاء والعلماء في مسائلهم «الفقهيَّة» و«فتواهم» عائدةٌ إلى اختلاف الرِّواية في «الحديث»، وأمثله ذلك كثيرة في كتبهم، يعجز المقام عن إيرادها.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ أهل العلم بـ«الحديث» و«الرّواية» أيضًا اختلفوا في رواية «الحديث» كما فعل علماء «النَّحو» و«اللُّغة»، عبر مراحل رواية «الحديث» المختلفة، فقد قال «ابن عبَّاس»: «إنَّا كنَّا نحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يُكذَب عليه، فلمَّا ركب النَّاس الصَّعب والذَّلول تركنا الحديث عنه». ويمكن ردُّ فعلهم هذا إلى الخوف من الكذب على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من جهة، وكراهة الانشغال والاشتغال بغير كتاب الله من جهة ثانية.

واختلفوا في جواز «الرّواية» بالمعنى، فذهب بعض منهم إلى منع ذلك، واعتبر أنَّ رواية «الحديث» بحذف أو نقصان بعض متنه غير جائزة؛ لأنهَّا تؤدِّي إلى قطع الخبر وإبطال معناه. بينما ذهب بعضهم الآخر إلى جواز تأديته بالمعنى من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة أو حذف، وإليه ذهب جمهور «الفقهاء»، وشرَّطوا أن يكون «الرَّاوي» عالماً بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ. وممَّن حدَّث بالمعنى: «الحسن»، و«الشعّبيّ»، و«إبراهيم النخغيّ»، وغيرهم، بينما عُرف مِمَّن حدَّث بالسَّماع: «القاسم بن محمد»، و«رجاء بن حيوة»، و«ابن سيرين»، على الرَّغم من عرْض «اللَّحن» أحيانًا، ونُقل عن «أبي معمر» أنَّه قال: «إنِّي لأسمع الحديث لحناً فألحن اتباعاً لما سمعت».

وقد قال «سفيان الثَّوريّ»: «لو أردنا أن نحدّثكم بالحديث كما سمعناه ما حدَّثناكم بحديث واحد». وقال «وكيع بن الجراح»: «إنَّ لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك النَّاس». وقال «ابن بكير»: «ربَّما سمعتُ مالكاً يحدّثنا بالحديث فيكون لفظه مختلفاً بالغداة وبالعشي». ومنه أيضًا قول «البخاريّ»: «ربّ حديث سمعته بالشَّام فكتبته بمصر، وربّ حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان، لذلك كان يكتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمَّتها؛ بل يتصرّف فيه ويسوقه بمعناه».
وقد دخل «الحديث النَّبويُّ» مرحلةً كَذَب النَّاس في روايته كذبًا كثيرًا، وبدأ بعض «الرُّواة» يضعون «الحديث» وينسبونه إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ سبب ذلك يكمن في نشوء الفرق العقديَّة والسِّياسيَّة في عهد خلافة الإمام «عليّ» رضي الله عنه، وظهور التَّحزُّب والطَّائفيَّة، وبروز بعض الفئات، وشيوع المقارصات والخلافات، وعلى رأسها الخلاف على ولاية أمر المسلمين، وخروج النَّاس بين مؤيد لـ«عليّ بن أبي طالب»، ومؤيد لـ«عثمان بن عفَّان»، ولمَّا كانت الخلافة محطَّ الخلاف، فقد لجأ مؤيدوا كلا الطَّرفين إلى وضع الرِّوايات المنسوبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، من أجل تثبت حقِّهم في الخلافة، وإبطال مزاعم الآخر، وهو أخطر ما وقعت فيه «الأمَّة الإسلاميَّة»، حيث بدأ تبديل «الدِّين» و«تحريفه» عن منهجه القويم الذي بُعث به النَّبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما وجدناه مصرَّحًا به في أكثر من موضع مما وقفنا عليه.

إضافة إلى نصرة أصحاب مذهب وإبطال غيره من المذاهب، ودخول الأمم الأخرى في «الإسلام»، وسعيهم إلى تزييفه وإظهار تناقضاته وإبطاله، وأحيانًا الدَّعوى إلى إصلاح المجمع من قبل «الزُّهَّاد» و«الوعَّاظ» وإلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة التي أدَّت إلى «وضْع الحديث».
وقد اختصر هذا الخلاف الإمام «السَّرخسيّ» صاحب «المبسوط» في كتابه «الأصول» بعبارة واحدة حيث قال: «وحديث رسول الله صلى الله عليم وسلم يفيد العلم بالقطع على غيبته باعتبار أصله، وإنَّما منشأ الشُّبهة النَّقل».

وقد خصصْنا حديثنا عن «الدَّولة الأمويَّة» كبداية؛ لأنَّنا لم نجد تفاصيل خلافيَّة فيما وقفنا عليه من كتب «التَّاريخ» و«تراجم الرِّجال» وغيرها قبل ذلك،، وقد يكون موجودًا لكنَّنا لم نقع عليه، وإن كنَّا نرجَّح عدم ذلك؛ لأنَّ سبب الخلاف السِّياسيّ بين الأئمة والرِّجال وقع في هذا العصر.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره «الذَّهبيُّ» في «نبلائه»: «سمعتُ يعني عيسى بن يونس، الأوزاعيَّ يقول: أخذنا العطاء حتى شهدنا على عليِّ بالنِّفاق، وتبرَّأنا منه، وأخذ علينا بذلك الطَّلاق، والعتاق، وأيمان البيعة، فلمَّا عَقَلْتُ أمري سألت محكولاً، ويحيى بن أبي كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن عبيد بن عمير، فقال: ليس عليك شيء، إنَّما أنت مُكْرَه، فلم تقرَّ عيني حتى فارقت نسائي، وأعتقت رقيقي، وخرجت عن مالي، وكفَّرتُ أيماني، فأخبرني سفيان كان يفعل ذلك».

ومنه أيضًا ما رواه «ابن جرير الطَّبريّ» في «تاريخه» من خبر طويل، يذكر فيه «ابن عبَّاس»، وصراعه مع أمير المؤمنين «عليّ بن أبي طالب»، حيث كان «ابن عبَّاس» صاحب بين «مال المسلمين» في «البصرة»، وقد أخذ منه بغير حقّ، وطلب الخليفة الاستعلام عمَّا وصله من رسالة «أبي الأسود الدُّؤلي»، يشكو فيها تصرَّف «ابن عبَّاس»، وبعد أخذ وردٍّ بينهما، أنهى الأخير جوابه للخليفة قائلا: «لئن لم تدعني من أساطيرك، لأحملَّنَّ هذا المال إلى معاوية يقاتلك به».

وقد روى الخبرَ «ابنُ عبد ربه» في «عقده الفريد» برواية أخرى، فقال: «كان عبد الله بن عبَّاس من أحبّ النَّاس إلى عمر، وكان يقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، ولم يستعمله قطّ، فقال له يومًا: كدتُ أستعملك، ولكن أخشى أن تستحلَّ الفيء على التَّأويل، فلمَّا صار الأمر إلى عليّ رضي الله عنه، استعمله على البصرة فاستحلَّ الفيء على تأويل قوله تعالى: «واعلموا أنَّ ما غنمتم من شيء فأنَّ لله خمسه وللرّسول ولذي القربى، واستحلَّه من قرابته من الرَّسول صلى الله عليه وآله». انتهى كلامه.

وقد ذكر «ابن الجوزيّ» في «تذكرة الخواصّ» أنَّ الشَّيطان نزغ بين «ابن عبَّاس» و«عليّ» رضوان الله عليهم مدَّة، ثمَّ ندم وعاد إلى موالاته.

ومثل هذا الخلاف السِّياسي لم يكن بمعزل عن المجتمع الذي يضمُّ بين دفَّتيه «الرُّواة» و«المحدِّثين» وأهل العلم الذين تأثَّروا فيما اختلفوا فيه اختلافًا كبيرًا، ومن أبرز مظاهر هذا التأثُّر يكمن في عدم حصول رواية «الأحاديث» عن «آل البيت» بالجملة؛ بل إنَّ بعضهم راح يسخر منهم إذا ما ذُكروا، من ذلك ما ذكره «الذَّهبي »في «نبلائه» حيث قال: «حدَّثنا أحمد بن يحيى بن وزير حدثنا الشَّافعيّ، حدَّثنا سفيان: كنَّا إذا رأينا طالبًا للحديث يغشى ثلاثة ضحكنا منه، ربيعة، ومحمد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمد، لأنَّهم كانوا لا يُتقنون «الحديث».
ولعلَّ من أبرز ظهور لانعكاسات هذا الاختلاف قد تجلَّت لدى «البخاريّ» نفسه في «صحيحه»، فنجد فيه هوىً أمويًا ظاهرًا في أحاديثه التي أخرجها فيه، وهو ميول يُحتِّم عليه إغفال الطَّرف الآخر المعارض لحكم «الأمويّين»، وقد تجلَّى ذلك في صور متعدِّدة في «صحيحه»:

منها: عدم تخريجه لـ«أحاديث» رواها مؤيدو الطَّرف الآخر، ومناصروا «عليّ بن أبي طالب» في حقِّه في الخلافة، سواء أكانوا من بنيه أم من أحفاده، فلم يروِ شيئاً عن «الحسن بن عليّ بن أبي طالب»، وكذا لم يروِ عن «جعفر الصّادق»، و«موسى الكاظم»، و«علي الرّضا»، و«محمد الجواد»، و«الحسن العسكريّ» الذي عاصره، ولم يروِ عن «الحسن بن الحسن»، و«زيد بن علي بن الحسين»، و«يحيى بن زيد»، و«محمد بن عبد الله»، وأخيه «إبراهيم بن عبد الله»، و«الحسين الفخي بن علي بن الحسن»، و«يحيى بن عبد الله بن الحسن»، وأخيه «إدريس بن عبد الله»، و«محمد بن جعفر الصادق»، و«محمد بن إبراهيم»، وأخيه «القاسم الرّسيّ»، و«محمد بن محمد بن زيد بن علي»، و«محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين» وغيرهم، مع أنَّه روى عن «الخوارج»، والموالين للسُّلطة «الأمويَّة» ومن كانت لهم عداوة مع «أهل البيت»، مثل «عمران بن حطّان»، و«مروان بن الحكم»، وقد قال فيه «ابن حبَّان»: «معاذ الله أن نحتجَّ بخبرٍ رواه مروان بن الحكم».

وقد برَّر «ابن تيمية» ذلك بقوله: «وبالجملة فهؤلاء الأئمة الأربعة ليس فيهم من أخذ عن جعفر شيئًا من قواعد الفقه، لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة، لا في القوّة ولا في الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لما بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام فلم يخرج له، ولم يُكْذَب على أحد ما كُذِب على جعفر الصادق مع براءته».

ولا أظنُّ أنَّ «البخاريّ» استراب لمجرَّد كلام «يحيى بن سعيد» في «جعفر الصَّادق»؛ لأنَّه قد روى لآخرين قيل فيهم أكثر من ذلك، وإنَّما هو نتيجة انعكاس الموقف السِّياسيّ الذي كانت عليه «بنو أميَّة»، وخير ما يدلُّ عليه ما رواه «النِّسائي»: «أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: مَا لِى لاَ أَسْمَعُ النَّاسَ يُلَبُّونَ؟ قُلْتُ: يَخَافُونَ مِنْ مُعَاوِيَةَ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ فُسْطَاطِهِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا السُّنَّةَ مِنْ بُغْضِ عَلِىٍّ».

ومنه روايته عن «حُريز بن عثمان الحمصيّ»، وقد صرَّح غير واحد من أصحاب «التَّراجم» و«التّاريخ» كـ«الذَّهبيّ» بــ«نصْبِهِ» و«لعْنِه» و«سبِّه» لأمير المؤمنين «عليّ» رضي الله عنه، وكان يقول: «لا أحبُّ عليًّا، قتل آبائي وأجدادي»، وقيل ليحيى بن صالح: «لمَ لم تكتب عن حريز؟ فقال: كيف أكتب عن رجل صلّيت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعنَ عليًا سبعين مرة؟». وفي رواية عن «ابن حبَّان»: «كان يلعن عليَّ بن أبي طالب بالغداة سبعين مرَّة، وبالعشيٍّ سبعين مرَّة، فقيل له في ذلك، فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي». ومع ذلك لم نجد «البخاريّ» يتورَّع عن الأخذ بروايته؛ في إشارة واضحة إلى سيطرة النَّزعة الأمويَّة عليه في تخريج أحاديثه.

وكذلك روايته عن «الزّهريّ» الذي كان صاحباً لـ«عبد الملك بن مروان» ومربِّياً لأولاده، ثم من بعده لازم ابنه «هشاماً»، وبعد ذلك «يزيد بن عبد الملك» الذي نصَّبه قاضياً. وكان ممن أجاز «الرِّواية» عنه بعض رجال «بني أميَّة»، ومن ذلك أنَّه جاءه رجل منهم يقال له: «إبراهيم بن الوليد»، وعرض عليه كتاباً، وقال: «أُحدِّثُ بهذا عنك يا أبا بكر؟ قال: إي لعمري، فمن يحدثكموه غيري»!!
يظهر جليًا في هذا الحديث قوَّة الأثر السِّياسيّ، وتوجُّه الحكم الأمويَّ في درْس آثار «آل البيت» عامَّة، وعدم السَّماح بنقل رواياتهم، ومن أمثلة ذلك أيضًا ما رواه «البخاريّ» من حديث «أنس بن مالك» قال: «صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون الفاتحة بالحمد لله رب العالمين».

أي: أنَّهم لم يجهروا بلفظ «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم»، وهو ما أكَّده «مسلم» في «صحيحه»، وفيه: «أنَّهم لا يذكرون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم»، وفي رواية أخرى: «ولم أسمع أحدًا منهم قال: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم»، وفي رواية أخرى أيضًا: «فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم».

ويُلاحظ في حديث «البخاريّ» أنَّه لم يذكر «عليًا» رضي الله عنه، إذ إنَّه كان يجهر بها في «الصَّلاة»، وهو ما أشار إليه «الرَّازي» في تفسيره حيث قال: «وأقول : إنَّ أَنَسًا وابنَ المغفل خصَّصا عدم ذكر بسم الله الرَّحمن الرَّحيم بالخلفاء الثَّلاثة، ولم يذكرا عليًّا، وذلك يدلُّ على إطباق الكلِّ على أنَّ عليًّا كان يجهر ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم . »

ولا أرى ذلك سببًا في عدم ذكره؛ بل نتيجة تاثير سياسيّ أحاط بـ«البخاريّ» نفسه، وبـ«أنس» أيضًا، يدلُّنا على ذلك روايات أخرى عن «أنس» نفسه حتى بلغت كما يقول «الإسفراييني» ستَّ روايات، من بينها رواية «أبي قلابة» التي تخالف رواية «البخاري» السَّابقة، وأنَّ «الخلفاء الثَّلاثة» قد جهروا بها، وقد جزم «الرَّازيّ» وفصَّل فيها فقال: «فثبت أنَّ الرِّواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرُّجوع إلى سائر الدَّلائل، وأيضا ففيها تهمة أخرى، وهي أنَّ عليًا عليه السَّلام كان يبالغ في الجهر بالتَّسمية، فلمَّا وصلت الدَّولة إلى بني أميَّة بالغوا في المنع من الجهر، سعيًا في إبطال آثار عليٍّ عليه السلام، فلعلَّ أنسًا خاف منهم، فلهذا السَّبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنَّا لا نشكُّ أنَّه مهما وقع التَّعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول عليِّ بن أبي طالب عليه السَّلام الذي بقي عليه طول عمره، فإنَّ الأخذ بقول عليٍّ أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة» .
وقريبٌ من ذلك عدم روايته عن ـ«أبي حنيفة» في «صحيحه»؛ بل كان يكني بعبارات من مثل «قال بعض النَّاس»، و«قول بعض النَّاس» عند التَّطرُّق إلى ذكر «أبي حنيفة»، وقد أكَّد شارحوه كـ«الشّيبانيّ» و«أبي يوسف» ذلك.

ومن أمثلة ذلك، ما ذكره في «باب الرِّكاز»، حيث قال: «وقال بعض النَّاس المعدن: ركاز، مثل دفن الجاهلية»، وعلَّق الشَّارح بقوله: «بعض النَّاس، كأبي حنيفة والثَّوري والأوزاعيّ رحمهم الله تعالى».

ومنه قوله: «وقال بعض النَّاس: هذه عارية، وإن قال: كسوتك هذا الثوب فهو هبة». فقال الشَّارح: «بعض الناس: قيل أراد بهم الحنفيَّة». وله نظائر كثيرة في «صحيحه»، بلغت بضعًا وعشرين موضعًا.

ولعلَّ فعل «البخاريّ» ذلك يمكن ردُّه إلى سببين:

الأول: أنَّ تأليف «البخاريّ» لكتابه جاء في سياق الرَّدِّ على «أهل الرَّأي»، أو من كانوا يسمونهم بـ«المرجئة»، أو «الجهميَّة»، وهؤلاء كانوا يعرفون بـ«أصحاب أبي حنيفة».
الثَّاني: أنَّ بعض شيوخ «البخاريّ» الذين تأثَّر بهم كانوا يكنِّون العداء لـ«أبي حنيفة» كـ«عبد الله بن الزبير الحميديّ» المتوفى 219هـ.

ومنها أيضًا: ظهور عدم التَّصريح بـ«الرَّاوي» أحيانًا مع علمه به، في إشارة واضحة إلى اضطراب في المنهج، قاده إليه التَّأثير السِّياسيّ الحاصل، وأظهره بمظهر البعيد عن الأمانة العلميَّة في التَّوثيق والنَّقل، من ذلك ما أخرجه في «باب تفسير سورة قل أعوذ برب النَّاس» حيث روى عن زِرِّ قال: «سألت أبيَّ بن كعب قلت: يا أبا المنذر! إنَّ أخاك ابن مسعود يقول: كذا وكذا، فقال أبيّ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: قيل لي، فقلتُ. قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وقد أطال أهل العلم في هذا «الحديث»، وتعلَّل قوم منهم «ابن حجر» لـ«لبخاريّ» في إيهامه هذا، وقد روى «الذَّهبيّ» ما يُلمح إلى سبب ذلك، فأورد رواية عن «والي بخارى»، وذكرها «ابن حجر» في مقدمته لـ«لفتح»، «قال محمد بن إسماعيل يومًا: ربَّ حديثٍ سمعته بالبصرة كتبتُه بالشَّام، وربَّ حديث سمعته بالشَّام كتبته بمصر، فقلتُ له: يا أبا عبد الله بكماله؟ فسكت».

640px-Umayyad_Mosque-Dome_of_the_Treasury

ولا ندري سبب رواية «البخاريّ» لمثل هذه الأحاديث وغيرها، حيث يظهر منها التَّناقض، والتَّشويش، ألا يكون ذلك مساسًا بجوهر الحديث بلفظه ومعناه؟! ألا يكون ذلك مدخلًا لمن أرد أن يطعن في الدِّين؟! لذلك كان لـ«لغزاليّ» موقفٌ مما أورده «البخاريّ» من ذلك فقال: «من المرويات السَّخيفة أن يجازف شخص بإثبات آثار تمسُّ القرآن الكريم، بل إنِّي أعدُّ ذلك من السَّفه المنكور….أليس من المضحك أن يُنسب إلى ابن مسعود أنَّه أنكر المعوَّذتين من القرآن الكريم؟ أتبلغ الحفاوة بالمرويَّات التَّافهة هذا الحدَّ من الخساسة؟ ……أحيانًا يُخيَّل إليَّ أنَّ أصحاب المساند جمعوها أوَّلا مسودات تضمُّ كلَّ ما قيل على أن يمحوا منها بعد ذلك الأساطير، ثمَّ ماتوا قبل أن يتمُّوا أعمالهم».
ونشير إلى أنَّ ما ذكرناه إنَّما هو محاولة تمهيديَّة لمعرفة الأثر السِّياسيّ الذي مارسته الدَّولة «الأمويَّة» في توجيه «العلماء» «والرُّواة» و«المحدِّثين» في نهج يهدف إلى إخراجهم من دائرة الخلاف القائم حينها، وإضفاء الشَّرعيَّة الدِّينيَّة على ترسيخ قدمهم في «السُّلطة» التي كانت محطَّ نزاع بين مؤيِّد لهم ومخالف، الأمر الذي دعاهم إلى التَّقليل من شأن «آل البيت»، وعدم «الرِّواية» عنهم بالجملة، وقد ظهر ذلك جليًا في المراسيم التي صدرت عن «معاوية بن أبي سفيان» بعد أن تقلَّد «الخلافة»؛ تضمَّنت السَّماح لـ«لخطباء» و«العلماء» بسبِّ ولعن «عليّ بن أبي طالب» رضي الله عنه؛ وعدم قبول شهادة «آل البيت»، وألا يجيزوا أحدًا من «شيعته»، وفي المقابل فتح الطَّريق أمام المواليين لـ«عثمان بن عفَّان» رضي الله عنه، وتقريبهم منه، وإكرامهم ونشر روايتهم، الأمر الذي أدَّى إلى المساهمة في اندثار الآثار الواردة عن «آل البيت» عامَّة، وتوثيق ما سواها، كـ«النَّاصبيَّة»، وقد استشكل هذا الأمر على «ابن حجر» في «تهذيبه» فقال: «استشكل توثيقهم النَّاصبيّ غالبًا، وتوهينهم الشِّيعة مطلقًا، ولا سيَّما أنَّ عليًا ورد في حقِّه: لا يحبُّه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق».

ونؤكِّدُ أنَّنا لا نريد الانجرار خلف ما ترتَّبت عليه آثار السِّياسة في «الحديث النَّبويّ» من انقسامات مذهبيَّة وطائفيَّة، وليس هذا مرادنا منها، وإنَّما الوقوف على ما ورد من أخبار في ذلك، لنبحث في أثرها السِّياسيّ في «الأحاديث النَّبويَّة»، فليس أحدٌ منهم معصومًا.

وإنَّما خصصنا «البخاريَّ» بالأمثلة؛ لأنَّه من أصحّ الكتب التي يزعم «أهل العلم» الإجماع عليه، وما زعموه ليس بصحيح؛ لأنَّ النَّقد قد طاله من العلماء قديمًا وحديثًا، ومِّمن عاصروه، وقد ألَّف بعضهم مصنَّفات منفردة فيما وقع له من أوهام، ونحن أردنا أن نظهر «الإسلام» على وجهه الصَّحيح بعيدًا عن المسلَّمات المطلقة التي تتهاوى عن أدنى تحقيق وتدقيق، فلا نقول بوقوع «السَّحر على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بـ«تحريف القرآن، وإن كان هذا الكلام مسطَّرًا في «البخاريّ» أو في «مسلم»؛ وإن كان ناقله «ابن عبَّاس» أو«عائشة» رضوان الله عليهم؛ وهم بريئون منه، لأنَّ «كلام الله» الذي هو أصدق الكلام وأكمله وأعجزه بخلاف ذلك، فلا يُلتفت إلى ما سواه، وما هو أدنى منه، ومن قول البشر، ولا نتهَّيب القول بذلك، ولا يمنعنا منه إجلال عالم، أو رسوخ قدم، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع.

وحسبنا في ذلك ما ذكره ابن «تيمية»، حيث قال: «وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي هَذَا أَنْ لَا نَعْتَقِدَ أَنَّ أَحَدًا مَعْصُومٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَلِ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُ الْخُلَفَاءِ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ، وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَقَعُ مِنْهُمْ، قَدْ يَتُوبُونَ مِنْهَا، وَقَدْ تُكَفَّرُ عَنْهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ يُبْتَلَوْنَ أَيْضًا بِمَصَائِبَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِهَا، قَدْ يُكَفَّرُ عَنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ».

 

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *