أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

وردَ ذكرُ هذا الكتاب في مقدَّمة تفسير «البحر المحيط» لـ«أبي حيَّان الأندلسيّ تـ745ه»، وقد صنَّفه «محمَّد بن سليمان تـ698هـ» المعروف بـ«ابن النَّقيب»، وهو كتاب في «التَّفسير» يزيد على مئة مجلَّدة، وقد صرَّح «أبو حيَّان» أنَّه نقل عنه في تفسيره، إذ هو من شيوخه الذين قرأ «القرآن» عليهم، فقال: «وَاعْتَمَدْتُ، فِي أَكْثَرِ نَقُولِ كِتَابِي هَذَا، عَلَى كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ لِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، مِنْ جَمْعِ شَيْخِنَا الصَّالِحِ الْقُدْوَةِ الْأَدِيبِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ الْمَقْدِسِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ، رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ أَكْبَرُ كِتَابٍ رَأَيْنَاهُ صُنِّفَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، يَبْلُغُ فِي الْعَدَدِ مِائَةَ سِفْرٍ أَوْ يَكَادُ، إِلَّا أَنَّهُ كَثِيرُ التَّكْرِيرِ، قَلِيلُ التَّحْرِيرِ، مُفْرِطُ الْإِسْهَابِ، لَمْ يُعَدَّ جَامِعُهُ مِنْ نَسْخٍ كُتِبَ فِي كِتَابِهِ، كَذَلِكَ كَانَ فِيهِ بِحَالِ التَّهْذِيبِ وَمُرَادِ التَّرْتِيبِ».

د. محمد عناد سليمان موقع إسرائيل بالعربيةولهذا التَّفسير مقدِّمة قصَرَها المؤلِّف على علم «البيان والبديع»، وخرج تحقيقه بعنوان: «مقدِّمة ابن النَّقيب في علم البيان والمعاني والبديع وإعجاز القرآن» للدّكتور «زكريا سعيد عليّ»، وقد ذكره «السِّيوطيّ» في كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، ونقل عنه صراحة في أكثر من موضع كقوله: «وقال ابن النَّقيب في مقدّمة تفسيره: المنزل من القرآن على أربعة أقسام: مكّيّ، ومدنيّ، وما بعضه مكّيّ وبعضه مدنيّ، وما ليس بمكّيّ ولا مدنيّ».

لكنَّنا نجدُ أيضًا كتابًا آخر بعنوان «كتاب الفوائد المشوق إلى علم القرآن وعلم البيان»، نسبه محقِّقه السَّيِّد «محمَّد بدر الدِّين النَّعسانيّ» إلى «ابن القيِّم الجوزيَّة ت751هـ»، وهي نسبة ظاهرة البطلان كما ذكر الدَّكتور «زكريَّا سعيد عليّ»، وغالب الظَّنِّ أنَّه مصيب في رأيه، إذ إنَّ مقدِّمة «ابن النَّقيب» كما يذكرُ المؤلِّفون في «مجلّدين» كبيرين في علم «البيان والبديع»، على نحو ما نجدُه عند «أبي حيَّان» إذ يقول: «الوجه الثَّالث: كون اللَّفظ أو التَّركيب أحسن وأفصح، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع. وقد صنَّف النَّاس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعُها ما جمعه شيخُنا الأديب الصَّالح أبو عبد الله محمَّد بن سليمان النَّقيب، وذلك في مجلَّدين قدَّمهما أمام كتابه في التَّفسير».

ولا أقصدُ في هذا المقال البحثَ في حقيقة نسبة الكتاب إلى صاحبه، أو معرفة ما ضمَّنه من فنون بلاغيَّة أو أدبيَّة، أو أقوال المفسِّرين وآرائهم، أو الكشف عن اختلاف القرِّاء وقراءاتهم، وإنَّما اخترتُ عنوان الكتاب «التَّحرير والتَّحبير» ليكون سبيلاً لتبيان ما قد يحاول بعض الباحثين والدَّارسين عن قصدٍ أو غير قصدٍ أن يبثُّوه من أفكار، وآراء، وأخبارٍ قد يجانبهم الصَّواب فيها؛ بل قد تكون مدخلاً من مداخل «التَّحريف» التي نسعى جاهدين إلى التَّنبيه عليها، ومحاولة تصحيحها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

أوردَ بعضُ الباحثين في محاولة منه إلى إيضاحِ بعض وجوه البلاغة «وسُمُوّ المعاني» في «القرآن الكريم»، وخصَّص قوله تعالى: ]وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} مريم15، وقوله تعالى: ]وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} مريم33، بالتَّأمُّل والتدبُّر، ولن أقف عند تفصيل كلِّ ما ذكره في ذلك، وإنَّما سأحصر ما أورده في ثلاث نقاط:

الأُولى: قوله: «ومَّما يؤيِّد هذا الاستنتاج ما ذكره ابن جرير الطَّبريّ عن الحسن البصريّ أنَّ عيسى ويحيى التقيا، وهما ابنا الخالة، فقال يحيى لعيسى: ادعُ الله لي، فأنتَ خيرٌ منِّي، فقال له عيسى: بل أنت ادعُ الله لي، فأنتَ خير منِّي، سلَّم الله عليك، وأنَّا سَّلَّمتُ على نفسيّ».

وفي هذه المسألة أمران:

الأوَّل: أنَّ الباحث لم يكن أمينًا في نقله، خاصَّة وأنَّه أحال على المصدر، وهو «الطَّبريّ» في تفسيره، والذي وقعتُ عليه عند «الطَّبريّ» قوله: «حدَّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أنَّ الحسن قال: إنَّ عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له الآخر: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمت على نفسي، وسلَّم الله عليك، فعرَف والله فضلها». ولعلَّ الوهم والخطأ الذي تطرَّق إلى ذهن الباحث ناتجٌ عن نقله من غير المصدر الذي ذكره، إذ إنَّ اللَّفظ الذي ذكره قد ورد في بعض كتب «التَّفسير» الأخرى كما هو الحال عند «القرطبيّ»، و«أبي حيَّان» وغيرهما.

الثَّاني: أنَّ بعضَّ العلماء قد جعل الأفضليَّة لـ«عيسى» u، بخلاف ما أورده الباحث، وانتزعوا من هذه الآية الأفضليَّة من حيث «التَّسليم»، بأن قالوا: «إدلاله في التَّسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرَّر وحكى في محكم التَّنزيل أعظم من أن يسلِّم عليه».

وسواء أكانت الأفضليَّة لـ«يحيى»، أم لـ«عيسى» عليهما السَّلام، فإنَّ الخبر الوارد في ذلك هو إخضاعٌ للآيات من حيث التَّأويل إلى سابق عهدٍ، فـ«القرآن الكريم» لاحقٌ في النٌّزول على بعثة «يحيى»، و«عيسى» عليهما السَّلام، ولا يصحٌّ من حيث التَّفسير تبيان ما نزل لاحقًا على ما غاب سابقًا إلا من باب الإخضاع والتَّأويل البعيد.

ويمكن تخريج ذلك على حسب ما أوردناه في مقال سابق بعنوان: «تصحيح التَّوراة والإنجيل من القرآن»، إذْ رجَّحنا أنَّ «القرآن الكريم» قد تضمَّن ما أنزله سبحانه وتعالى في الكتب السَّماويَّة السَّابقة بنصِّه، فتكون الآيتان ممَّا نزل في «الإنجيل» ثمَّ ذكرهما «القرآن» بنصِّهما، ولا أظنُّ الباحثَ ممَّن يرتضي هذا القول من قريب أو من بعيد.

الثَّانية: قول الباحث: «ويومَ أموتُ: لأنَّهم أخذوه ليصلبوه، فنجَّاه الله من أيديهم، وألقى شبهه على شخص آخر، ورفعه الله تعالى إلى السَّماء»، وهو يقصدٌ «عيسى» u، ولن ندخلَ في تبيان ما إذا كانت وفاةُ «عيسى» u وفاةَ موت، أو غير ذلك، لكنَّنا نشير إلى ما أثبته الباحث من أنَّ «عيسى» u لم يُصلب، وألقى سبحانه وتعالى شبهه على رجل آخر؛ وهي عقيدة ثابتة لدى المسلمين العرب، «لا ينتطحُ فيها عنزان» بزعمهم.

وغالب الظَّنِّ أنَّ هذه العقيدة وردتنا من «اليهود» و«المسيحيين»، وليست من صلب عقيدتنا؛ تهدفُ إلى إثبات بعض المعتقدات الأخرى التي أُلبست ثوبًا إسلاميًّا، كظهور «الدَّجَّال»، وأنَّ «عيسى» u سينزل لقتاله، فكان لا بدَّ من القول والجزم على حسب معتقدهم أنَّ وفاته لم تكن وفاةَ موت؛ بل وفاة رفْعٍ، لأنَّ «اليهود» يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنَّ «مسيحهم المنتظر» سيعود، وسيكون منقذَهم ومخلِّصَهم، و«المسيحيون» يرون الأمر نفسه، مع كونِهِ ربًّا وإلهًا، وهي الشُّبهة التي غيَّرت «الدِّيانة المسيحيَّة» برمَّتها. وقد اعتمد من أقرَّ بعودته على آيات من «القرآن الكريم»، ليدلِّل على صحَّة هذا المعتقد في «الإسلام»، وأنَّ هناك «مسيحًا» و«مهديًّا منتظرًا» جريًا على سَنَن «اليهود» و«النَّصارى».

وكلُّ ما قيل أو وردَ في أمر «عيسى» u مأخوذ من كتب «بني إسرائيل»، وناتج عن الاختلاف الذي وقع بين فرق «النَّصارى» الثَّلاثة الكُبرى «النَّسطوريَّة»، و«الملكاويَّة»، و«اليعقوبيَّة»، فقد قالت طائفة منهم «النَّصارى» كما يذكره «القرطبيُّ»: «بل رفعه الله إلى السَّماء ونحن ننظرُ إليه».

وقد قال «أبو حيَّان»: «واختلف الرُّواة في كيفيَّة القتل والصَّلب، ولم يثبتْ عن رسول الله e في ذلك شيء غير ما دلَّ عليه القرآن». وقال: «أمَّا أن يُلقي شبهه على شخصٍ فلم يصحَّ ذلك عن رسول الله e فيعتمد عليه»، ثمَّ ذكر اختلافهم فيمن أُلقي عليه الشَّبهة فقال: «وقد اختلفَ فيمن أُلقي عليه الشَّبه اختلافًا كثيرًا. فقيل: اليهوديّ الذي دلَّ عليه. وقيل: خليفة قيصر الذي كان محبوسًا عنده. وقيل: واحدٌ من اليهود. وقيل: دخل ليقتله. وقيل: رقيب وكَّلته به اليهود. وقيل: ألقي الشبه على كلِّ الحواريِّين. وقيل: ألقي الشَّبه على الوجه دون اليد»، ولا شكَّ أنَّ هذا «الوثوق ممَّا يدفع الوثوق بشيء من ذلك. لذلك قال بعضهم: إن جاز أن يُقال: إنَّ الله تعالى يُلقي شبه إنسان على إنسان آخر؛ فهذا يفتح باب السَّفسطة».

وخيرُ ما قيل في ذلك ما وقعتُ عليه لـ«ابن عطيَّة» في تفسيره «المحرَّر الوجيز» كما نقله عنه «أبو حيَّان»: «واليقينُ الذي صحَّ فيه نقل الكافَّة عن حواسِّها هو أنَّ شخصًا صُلب، وهل هو عيسى أم لا؟ فليس هو من علم الحواس، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافَّة».

الثَّالثة: تتعلَّق بالحالة الصّرفيَّة لكلمة «ولدْتُ» فقال: «يوم وُلِدْتُّ: لأنَّ يوم مولده مرَّ بسلام»، حيث أثبتَ الباحث «الشَّدَّة» من فوقها «الضَّمَّة» في الفعل «ولدْتُ»، ولا شكَّ أنَّه قصدَ بذلك اللَّفظَ لا الكتابة، إذ إنَّ «الدَّال» و«التَّاء» و«الطَّاء» من مخرج واحد، وصفتها في «الهمس» واحدة، ولتقاربها في المخرج يظهر للسَّامع إدغامها، ومثل هذا الإدغام قد وردَ عن العرب في غير «افتعل»، فقالوا: «جُدْدُ»، و«فُزْدُ» يريدون «جُدْتُ»، و«فزْتُ»، حيث أبدلوا من «التَّاء» «دالاً» لمكان «التَّاء» و«الزَّاي»، ومثل هذا «الإبدال» وصفه النَّحويُّون والصَّرفيُّون بالشُّذوذ، «ولا يُقاس ذلك؛ بل يُسمع»، فلا يُقال: «اجترح»، أو«اجدرأ». ولا أرى وصفه بالشُّذوذ صوابًا؛ لأنَّ مثل هذا الإبدال قد ثبت لغة لبعض العرب، فنسبه «ابن سيده» إلى «تميم»، وما كان لغة فالأَوْلَى ألا يُوصف بالشُّذوذ.

وغالب الظَّنِّ أنَّ الباحثَ لم يقصد ذلك التَّفصيل من إثباته «الشَّدَّة» في قوله: «وُلدْتُّ»؛ لأنَّه أثبتَ «السُّكون» على «الدَّال»، ومن المعلوم في «علم النَّحوّ» أنَّ الحرف المشدَّد عبارة عن حرفين أوُّلهما ساكن، والثَّاني متحرِّك، وعليه فإنَّ «الدَّال» السَّاكنة، و«التَّاء» الأولى المخفَّفة ساكنة ممَّا يعني التقاء ساكنين، وهو مِمَّا ينبو عنه اللَّفظ، ويدفعُ إلى ضرورة «الإدغام» في النُّطق. والله تعالى أعلم.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *