أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمانما يزال بعضُ من يدَّعي أنَّه من أهل العلمِ مستمرًّا في تعدَّيه على ما ليس هو من أهله، وإن كان يعتقد في نفسه خلافه، فيقع بسبب هذا الاعتقاد في وهْم وأخطاء يظنُّ أنَّ فيها الصَّواب المطلق، ولا شكَّ أنَّ العامَّة من النَّاس تجري على سَننها في التَّصفيق لمن يوافق فكرها ومعتقدها، أمَّا المخالف فلا شكَّ أنَّه كافر وفاسق عن الطَّريق القويم، ولو أنَّها قرأتْ وراجعت وتثبَّتت ما يطرق مسامعها لكان خيرًا لها، لكن أنَّى ذلك لأمَّة لا تقرأ؟َ
ولعلَّ الدَّافع لهذا المدَّعي وأمثاله أنَّهم قد درسوا العلم الشَّرعيّ في مدارس ذات توجِّه فكريّ ومذهبيّ معيِّن، فجعلوا من أنفسهم كعادتهم أوصياء على العلوم كافَّة، وأنَّهم الحكم الفصل في قبول أو رفض ما يصدر عنه من أفكار وآراء وقواعد وضوابط.
وقد صرَّح أحدُ هؤلاء الأدعياء في مقدمة مقال يردُّ فيه على مخالفه بذلك فقال: «كلُّ علم له قواعدُه وأصوله، وله ضوابطه وشروطه»، لكنَّه في الوقت نفسه نراه تعدَّى على غير علمه وفنِّه، وإن كنتُ من الرَّافضين لهذه الفكرة من أساسها، فكم من عالم قد صنَّف وألَّف في علوم مختلفة، ولم يشنِّع عليه أحد؛ بل كان ذلك مفخرة له، بخلاف ما عليه علماء عصرنا إذ يتعلَّلون بردِّ ما عليه مخالفهم من أنَّه ليس من أهل الاختصاص، وما ذلك إلا لأنَّهم مصرُّون على احتكار العلم الدِّينيّ بصفتهم الأوصياء والوكلاء الربَّانيِّين عليه.
وإنَّما أردُّ عليه بما يحتجُّ هو به، ثمَّ يتابع هذا المدَّعي بأنَّ «علم التَّفسير لا يحقُّ لمن يخوض فيه إلا بعد توفِّر المؤهلات، وأوَّل هذه المؤهلات: إتقان اللُّغة العربيَّة، ومنها الأساليب البلاغيَّة والإعراب» في حين أنَّه لم يلزم نفسه بما ذكر؛ بل لا يقبل ما يقوله من توفرَّت فيهم هذه المؤهلات، إن كانتْ مخالفة لما هو عليه، وسأقف عند بعض ما أورده المدَّعي من ملاحظات:
أوَّلها: قال المخالف له: «وكأنَّ القرآن الكريم استخدم قواعد سيبويه وابن جنِّي وألفية ابن مالك عند صياغته)، فردَّ عليه قائلا: «يدلُّ على جهل فظيع في قواعد الإعراب؛ لأنَّ علماء النَّحو جاؤوا بها اعتمادًا القرآن الكريم؛ وبناء على استقراء كلام العرب، ولم يأتوا بهذه القواعد من بيت أبيهم وأمِّهم، وصدق القائل: الإنسان عدو ما يجهله».
ولو كلَّف الكاتب نفسه عناء البحث قليلا في بعض كتب «النَّحو»، وبعض «كتب الأعاريب»، وشيئًا من كتب «اللُّغة» لعلم أنَّه وقع فيما نصَّ عليه من قولهم: «الإنسان عدوّ ما يجهله»، ولأيقن أنَّ كثيرًا من علماء «النَّحو» قد قعَّد قواعده على استقراء ناقص من كلام العرب، وبما يتناقض مع النَّص القرآنيّ، ممَّا يهدم ما جعله حجَّة له؛ لكنَّه على عادته يعتمد على السَّماع فيما يصله دونما بحث وتمحيص، ولو تدبَّر شيئًا من (القرآن الكريم» لعلِمَ صحَّة ما نقول!
ونذكر مثالين على صحَّة دعوانا، والأمثلة في ذلك لا يمكن حصرها:
الأوَّل: ردَّ كثيرٌ من علماء «النَّحو» اجتماع همزتين في كلمة واحدة كقولهم: «أئمة»، أو «معائش»، ولما قرأ بها أحد القرَّاء السَّبعة كـ«نافع» شنَّعوا عليه، ووصفوه بما لا يجوز فيه وأمثاله. وقد ذكر ذلك «أبو حيَّان» في بحره مجملاً وأحسن في الدِّفاع، علمًا أنَّ الرَّافضين هم من علماء «النَّحو» وأهل «الصِّناعة والفنِّ» فقال: «وقال الزَّجاَّج: جميع نحاة البصرة تزعم أنَّ همزها خطأ، ولا أعلم لها وجها إلا التَّشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التَّعويل على هذه القراءة. وقال المازنيّ: أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ولم يكن يدري ما العربية، وكلام العرب الصحيح في نحو هذا. انتهى. ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة»، وعبارته الأخيرة، فيها من ضرورة البحث والتَّمحيص ما يجعلها حجَّة بالغة على قول الكاتب نفسه.
ثم يتابع «أبو حيَّان»: «وقال الفرَّاء: ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنهَّا فعيلة فيشبهون مفعلة بفعيلة. انتهى. فهذا نقل من الفرَّاء عن العرب أنهَّم ربما يهمزون هذا وشبهه، وجاء به نقلة القراءة الثّقات ابن عامر، وهو عربيٌّ صرَّاح، وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللَّحن، والأعرج، وهو من كبار قرَّاء التَّابعين، وزيد بن علي، وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلَّ أن يدانيه في ذلك أحد، والأعمش، وهو من الضّبط والإتقان والحفظ والثّقة بمكان، ونافع، وهو قد قرأ على سبعين من التّابعين وهم من الفصاحة والضّبط والثّقة بالمحلّ الذي لا يجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا، ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا، وأمَّا قول المازنيّ: أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح؛ لأنَّها نقلت عن ابن عامر، وعن الأعرج، وزيد بن علي، والأعمش،  وأمّا قوله: إنَّ نافعًا لم يكن يدري ما العربية، فشهادة على النّفي، ولو فرضنا أنّه لا يدري ما العربيّة، وهي هذه الصّناعة التي يتوصّل بها إلى التّكلّم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك، إذ هو فصيح متكلّم بالعربيّة ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النّحّاة يسيئون الظّنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم ذلك» .
ولو كلَّف الكاتب نفسه عناء البحث قليلا لعلم أنَّه قد طعنَ فيمن يحاول دائمًا الدِّفاع عنه، وما ذلك إلا بسبب ضيق إدراكه، وقلَّة علمه، وتقليده الأعمى الذي يرى في التِّراث سمينًا صافيًا، لا شائبة فيه، وهو ما دعاه إلى القول منكرًا على المخالف: «ويتعدَّى على السُّنَّة فينكر رؤية الله يوم القيامة، وينكر الصِّراط الذي سيكون في الآخرة على ظهر جهنّم»، ولم يعلم أنَّ من المنكرين للرُّؤية السِّيدة «عائشة» رحمها الله، كما في صحيح «البخاريّ» الذي يجزم الكاتب بصحَّة جميع ما ورد فيه. ولم يعلم أنَّ «القرآن الكريم» لم يشر من قريب أو من بعيد إلى أنَّ «الصِّراط» جسر متعلِّق فوق «جهنَّم»، ولم يعلم أنَّه يسيء إلى «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم عندما ينسب إليه شيء مخالف لما نصَّ عليه «القرآن»!

الثَّاني: ما ذكروه من أوزان لجمعي «الكثرة» و«القلَّة»، في حين أنَّ «القرآن الكريم» لم يلتزم بما ذكروه؛ بل جاء مخالفًا لقواعدهم في ذلك، وأزيده من الشِّعر بيتًا أنَّ «القرآن الكريم» قد أورد لها زيادة على ما قالوا أوزانًا كثيرة لم يتطرَّقوا إليها، وقد لخَّصنا ذلك كلَّه في مقال خاصِّ قلنا فيه: «ومردُّ هذا في غالب الظَّنِّ إلى عدم اكتمال استقرائهم لهذه الجموع في مظانِّها الأساسية، فكثيرًا ما تتداخل أبنيتها فيما بينها، وقد ظهر كثيرٌ من الجموع التي خالفت بابها، فحُكم عليها بعدم الاطِّراد، وتكاد تكون أكثر مِمَّا اطَّرد في بابه؛ بل إنَّ المتمعِّن في قضية جموع التَّكسير، والنَّاظر إليها نظرة واقعيَّة بعيدة عمَّا أقرَّه الصَّرفيُّون يجد أنَّ هذه القضية يمكن هدمها من أساسها، فجموع التَّكسير كما يظهر من حيث الواقع اللُّغويّ نوع واحد لا غير، وأنَّ الواقع اللُّغويَّ المستعمل يُشير إلى وجود أبنية لجموع التَّكسير غير ما ذكره علماء الصَّرف، وهذا أمر أخر ينهضُ دليلاً قويَّا على عدم استقرائهم لكلَّ ما ورد من هذه الجموع، ففي القرآن الكريم وحده اثنان وأربعون بناء لجموع التَّكسير، وهو عدد يكاد يكون ضعف ما ذكره الصَّرفيُّون في مصنَّفاتهم، ومن هذه الأبنية الجديدة «فَعَّالة»، و«فِعَالَة»، و«فَعِيل» وغيرها، وأمثلتها على التَّرتيب، قوله تعالى: }وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ{، وقوله: }قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{، وقوله: }وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{. كما أنَّ الاستعمالَ اللُّغويّ لجموع التَّكسير يدلُّ على أنَّ العرب كانوا يُفرِّقون ين الدَّلالات التي يُستعمل فيها الجمع، فإذا ما أرادوا العين الباصرَة مثلاً جمعوها على «أعين»، أمَّا إن قصدوا عين الماء ونحوها فإنَّما جمعوه على «عيون»، ولقد ورد هذان الجمعان في القرآن الكريم، فتكرَّر الأوَّل اثنين وعشرين مرَّة، والثَّاني في عشرة مواضع، ولم يُستعمل أحدهما لمعنى الآخر».

ثانيها: وفيما سبق ردٌّ على ما ذكره الكاتب من قوله: «أليس هذا تشويه لقواعد النَّحو والإعراب التي هي مفخرة عندما يصفها ناقصة ومعقدة؟ أليس في ذلك خدمةً لأعداء الأمَّة عندما نطعن بالقانون الذي يضبط الكلام؟ أليس في هذا تنفير للنَّاس من لغتهم العربيَّة الفصيحة؟!».
وغفل الكاتب عمّا ذكره في أوَّل كلامه من المؤهلات التي يجب أن تتوافر في المفسِّر لكتاب الله، ولم يدرِ لضحالة علمه أنَّ القائل هو «أبو حيَّان» وثلَّة من العلماء الذي قعَّدوا القواعد، وليسوا من خَدَمة أعداء الأمَّة؛ والكاتب يجري على عادة كثير ممن سبقه من الجَهَلة في أنَّ كل نقدٍ للعلماء ممن سبقونا هو طعن فيهم، ويصبُّ في خدمة الأعداء، متجاهلا العلم الغزير الذي صدر عنهم نتيجة ممارسة النِّقد والتَّفنيد على أسس علميَّة رصينة، وليس في تحميل العدو خطأنا بشكل دائم، وادِّعاء أنَّنا الثَّوب الأبيض الذي لا رانَ عليه ولا سواد!

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *