أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

جرينا في كثيرٍ من مقالاتنا على نقد الموروث، وتصحيح المحرَّف اعتمادًا على القرآن الكريم نفسه، يدفعنا إلى ذلك كثرة الاختلافات، وتعدُّد الآراء والمذاهب في «التَّفسير»، و«الأحكام»، وغيرهما، جريًا من أصحابها وراء تعصُّبهم «المذهبيّ» حينًا، و«الطَّائفيّ» حينًا ثانية، والميول «السِّياسيّ» أحيانًا كثيرة.

من ذلك ما وجدناه من اختلاف في تفسيرهم لقوله تعالى: ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة100. إذ إنَّنا لا نجدُ جوابًا شافيًا عن «السَّابقون الأوَّلون»؛ بل يظهر في تفسيرهم لها ما ذكرناه من الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك، وسنعرض لبعض ما قالوه فيها.

الأوَّل: قال «ابن عبَّاس» و«أبو موسى الأشعريّ»، و«ابن المسيب»، و«ابن سيرين»، و«قتادة»: «هم الذين صلُّوا إلى القبلتين».
الثَّاني: قال «عطاء»: «من شهد بدرًا، وحوِّلت القبلة بعد بدرٍ بشهرين».
الثَّالث: قال «الشَّعبيّ»: «من أدرك بيعة الرَّضوان»، وقال: «من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الأوَّلون، ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الأولين».
الرَّابع: تخصيص ذلك بشخص معيِّن، وهو بتأثير السِّياسة، والخلافات التي لحقتها في أحقيَّة الخلافة بعد موت النَّبيّ e، يظهر ذلك جليًا في قول «الفخر الرَّازيّ»: «إذا ثبتَ هذا فنقول: إنَّ أسبق النَّاس بالهجرة هو أبو بكر؛ لأنَّه كان في خدمة الرَّسول عليه الصلاة والسَّلام، وكان مصاحبًا له في كلِّ مسكن وموضع، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره، وعلي بن أبي طالب وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنَّه إنَّما هاجر بعد هجرة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، ولا شكَّ أنَّه إنَّما بقي بمكَّة لمهمَّات الرَّسول إلا أنَّ السَّبق بالهجرة إنَّما حصل لأبي بكر، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكومًا عليه بأنَّه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدَّرجات من الفضل».

القرانويظهر من هذا النَّقل تفضيل «الفخر الرَّازيّ» جاريًا على مذهب «أهل السُّنَّة» في أحقيَّة «أبي بكر» رحمه الله للخلافة من «علي بن أبي طالب» رحمه الله، وهو تأويل قادت إليه يدُ السِّياسة التي حدث النِّزاع فيها منذ اللَّحظة الأولى التي قُبض فيها رسول الله e. ويؤكِّد ذلك ما أورده «الرَّازيُّ» بعد ذلك فقال: «وإذا ثبتَ هذا وجب أن يكون إمامًا حقًّا بعد رسول الله، إذ لو كانت إمامته باطله لاستحقَّ اللعن والمقت، وذلك ينافي حصول مثل هذا التَّعظيم، فصارت هذه الآية من أدلِّ الدَّلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحَّة إمامتهما».

وبعد أن يذكر من مناقب «أبي بكر» رحمه الله، وتفضيله على «عليّ بن أبي طالب» رحمه الله يقول: «وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه؛ لأنَّه في ذلك الوقت كان صغير السنِّ، وكان جاريًا مجرى الصَّبيّ في داخل البيت، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوّة للإسلام، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره، فثبتَ أنَّ الرأس والرَّئيس في قوله: «والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين» ليس إلا أبا بكر».

ولا أعلم من أين عرف «الفخر الرَّازيّ» أنَّ هذه الآية من «أدلِّ الدَّلائل» على ما ذكره؟! ولا قرينة فيها تشير إلى ذلك؟! خاصَّة وأنَّ جميع من سبقه لم يشر إلى ذلك. والدَّافع إليه ما قلناه بأنَّ يدَ السِّياسة كان لها الدُّور الأكبر في تحريف «القرآن» بالتَّأويل، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، يصعب حصرها في هذا المقام.

لذلك وجدنا بعض المفسِّرين ومنهم «أبو حيَّان الأندلسيّ» قد استبعد ما ذهب إليه «الرَّازي» وأمثاله فقال: «ومن فسَّر السَّابقين بواحد، كأبي بكر، أو علي، أ زيد بن حارثة، أو خديجة بنت خويلد، فقوله بعيد من لفظ الجمع، وإنَّما يناسب ذلك في أوَّل من أسلم».

بل إنَّ النَّزعة العصبيَّة قد دفعتهم إلى تحريفها لفظًا بإسقاط «الواو» قبل «الذين» في قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ[التوبة100، يظهر ذلك من بعض الأخبار والآثار التي أوردوها في ذلك، منها ما يذكره «الطَّبريّ» حيث قال: «حدَّثني به أحمد بن يوسف قال: حدَّثنا القاسم قال: حدَّثنا حجَّاج عن هارون عن حبيب بن الشَّهيد وعن ابن عامر الأنصاريّ أنَّ عمر بن الخطَّاب قرأ: «والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار الذين اتَّبعوهم بإحسان»، فرفع: الأنصار، ولم يلحق «الواو» في «الذين»، فقال له زيد بن ثابت: والذين اتَّبعوهم بإحسان. فقال عمر: الذين اتَّبعوهم بإحسان. فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم. فقال عمر: ائتوني بأُبيّ بن كعب. فأتاه، فسأله عن ذلك، فقال أُبيّ: والذين اتَّبعوهم بإحسان. فقال عمر: إذًا نتابع أُبيًّا».

وفي هذا الخبر أمور لا بدَّ من الوقوف عندها:

أوَّلها: أنَّ «عمر بن الخطَّاب» لا يعرف هذه الآية على الوجه الذي فيه «الواو» حتى استدعى «أُبيَّ بن كعب» ليصحِّح له ذلك, وهو من الغرابة بمكان.

ثانيها: أنَّ «عمر بن الخطَّاب» رحمه الله أمير المؤمنين وقدوتهم، وهو يقرأ هذه الآية على هذا النَّحو، الذي لم يعرفه إلا من «أبي».

ثالثها: طاعة «زيد بن ثابت» لأمير المؤمنين مع علمه أنَّ الصَّواب فيها إثبات «الواو» إلا أنَّه أقرَّ لـ«عمر بن الخطَّاب» بصواب رأيه، لا لشيء؛ إلا لأنَّه أمير المؤمنين، وقد ثبت خطؤه.

رابعها: إنَّ النَّزعة العصبيَّة هي التي دعت أمير المؤمنين إلى الإقرار بإسقاط «الواو» لما فيه من فضل له ولأقرانه دون غيرهم، يظهر ذلك من الخبر التَّالي الذي أورده «الطَّبريُّ» في «تفسيره» إذ يقول: « حدَّثنا أبو كريب قال: حدَّثنا الحسن بن عطية قال: حدَّثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرَّظي قال: مرَّ عمر بن الخطاب برجلٍ يقرأ: «والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار»، حتى بلغ: «ورضوا عنه». قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أُبيّ بن كعب. فقال: لا تفارقني حتَّى أذهب إليه. فلمَّا جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: لقد كنتُ أظنُّ أنَّا رُفعنا رفعة لا يبلغها أحدٌ بعدنا». وفي هذين الخبرين وغيرهما تفنيد زعمِ من خصَّص الآية بـ«عمر بن الخطَّاب» رحمه الله.

والذي يظهر في تفسيره هذه الآية اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» أنَّ المراد بـ«السَّابقون الأوَّلون» السَّبق في الإيمان والعمل الصّالح والتَّقوى، واستمرارهم عليه حتى الممات، وليس السَّبق الزَّمنيِّ أو تخصيصه بأحد دون غيره، يدلُّ على ذلك وجوه:

الأوَّل: أنَّه لو كان المراد سبقًا زمنيًا لما عطف عليه «الأنصار» وهم لاحقون في الزَّمن، ولما عطف عليه «اتَّبعوهم بإحسان» وهو مستمرُّ إلى يوم القيامة.

الثَّاني: أنَّ «القرآن» الكريم قد بيِّن هؤلاء السَّابقين في غير موضع فقال تعالى: ]ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر32، فجاءت الآية عامَّة في «من عبادنا»، ومن هؤلاء العباد «سابق بالخيرات»، وظاهرٌ أنَّ المراد ليس سبقًا زمنيًا. ونظيره قوله تعالى: ]­­وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً «7» فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ «8» وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ «9» وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «10» أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «11» فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «12» ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ «13» وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ[.

الثَّالث: أنَّ «السَّابقون الأوَّلون» مبتدأ، خبره قوله تعالى: «رضي الله عنهم»، وقوله: «من المهاجرين» على التَّبعيض، ثمَّ عطف عليه قوله: «والأنصار»، و«الذين اتَّبعوهم» أيضًا على التَّبعيض، فمنهم سابق بالخيرات، ومنهم غير ذلك من هذه الأصناف الثَّلاثة. والله تعالى أعلم.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *