أقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

تختلف اللَّفظتان في حرف واحد وهو «اللام»، و«النُّون»، ويسمَّى هذا النَّوع من الفنِّ الأدبيّ «الجناس غير التَّامّ»، أي: أن تختلف لفظتان في حرف بنيةً، أو زيادةً، أو نقصانًا.

ولا نقصدُ في هذا المقال التَّنبيه على هذا النَّوع الأدبيّ، وإنَّما الغاية منه الإشارة إلى ما يقع فيه كثير من أهل العلم فيجعلون من أنفسهم ناقدين، وهم في حقيقة الأمر مجرَّد ناقلين لما سبق، وتغيب نظرتهم النَّقديَّة عمَّا ينقلونه، على الرَّغم من إيهام القارئ بذلك، وما يزيد الطِّين بِلَّة والأمر علَّة أنَّهم يجعلون النَّقل في حيِّز الحقيقة المطلقة، وأنَّهم قد أشبعوه وبعجوه نقدًا عندما يتعلَّلون بذكر الأمثلة والنَّظائر على ما يوردونه.

د. محمد عناد سليمانمن ذلك ما وقعتُ عليه في ردِّ على الرَّدّ من قبل بعض الأخوة الذي حاول جاهدًا أن يبعد التَّضليل الذي وقع فيه، وأن يرميه على غيره، جريًا على عادته في امتلاكه الحقَّ المبين، وغيره لا شكَّ على الضَّلال المبين، وليته في ردِّه على الرَّد بيَّن حجَّته في الأصل الذي من أجله كان الرَّدّ الأوَّل، وهو قواعد العربيَّة وأصولها. وليته التزم بما أثبته في مقدِّمة ردِّه حيث قال: «وإنَّما الأمانة العلميَّة تتطلَّب بيان الحقّ»، ومن أجل هذه الأمانة نكتب ردَّنا على ذلك تفنيدًا ونقدًا واستدلالاً بما ألزم به نفسه.

قال في مقدَّمة ردِّه: «فعندما يخرج البعض عمَّا اتَّفقت عليه الأمَّة، ويريد أن يأتي لنا بمعانٍ تخالف حقائق دلالات اللُّغة العربيَّة، وتخالف صريح الأحاديث المتواترة والصَّحيحة فهذا نوع من العبث والتَّلاعب، وعندها يكون السُّكوت خيانة للأمانة، وسأكتفي بقضيتين لننظر مدى التَّحريف والتَّضليل للنَّاس»

ولعلَّ من أهم التَّضليل الذي وقع فيه الكاتب قوله: «اتَّفقت عليه الأمَّة» خاصَّة في القضيتين اللتين يخصُّهما بالرَّدّ؛ بل إنَّ الكاتب نفسه قد أورد ما هو حجَّة على عدم اتِّفاق الأمَّة عندما ذكر الخارجين عليها كـ«المعتزلة»، و«الجهميَّة»، وأزيد عليه «المرجئة» وغيرها، ممَّا يدلُّ على أنَّ الكاتب مجرِّد ناقل لما سبق، ولم يكلِّف نفسه عناء التدبُّر فيما ينقله، إلا إن كان يرى هؤلاء جريًا على سابقيه ليسوا من «الأمَّة»، وأظنُّه كذلك، يؤيِّده ما ذكره من كلام «النَّوويّ» في ذلك.

أمَّا القضية الأولى فهي «رؤية الله يوم القيامة»، وردَّ ما ذكرناه من إنكار السِّيَّدة «عائشة» رحمها الله بأنَّه من التَّضليل؛ لأنَّه خصَّ هذه الرُّؤية في «الإسراء والمعراج»، فقال: «انظروا إلى هذا التَّضليل، السِّيَّدة عائشة فقط أنكرت رؤية النَّبيّ e لله تعالى في الإسراء والمعراج، ولم تنكر رؤيته في الدَّار الآخرة؛ بل لم ينكر هذا عن صحابيّ واحد»، ثم أوردَ الحديث بتمامه من «البخاريّ».

ولا أعلمُ من أين جزم الكاتب أنَّ «عائشة» رحمها الله خصَّت ذلك بـ«الإسراء والمعراج» وإن كان السَّبب فيه ذلك؟ ولعلَّ هذا راجع إلى ما قلناه سابقًا من أنَّ الكاتب ينقل دون تدبُّر فيما ينقل، ولضحالة علمه في الاستنباط العلميِّ القائم على الحجَّة والبرهان، فهذا الحديث الذي يذكره الكاتب قد استدلَّ به «المعتزلة» وهم ثلَّة من العلماء على نفي رؤية الله يوم القيامة، وليس في «الإسراء والمعراج» فقط كما يحاول الكاتب أن يوهم القارئ بذلك، وأكتفي بنقل الوجه الذي أورده «الرّازيُّ» في ذلك إذ يقول: «الوجه الثَّاني في بيان أنَّ هذه الآية تفيد العموم أنَّ عائشة رضي الله عنها لما أنكرتَ قول ابن عبَّاس في أنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه ليلة المعراج تمسَّكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية، ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنِّسبة إلى كل الأشخاص والأحوال لما تمَّ ذلك الاستدلال، ولا شكَّ أنَّها كانت من أشدِّ النَّاس علمًا بلغة العرب، فثبت أنَّ هذه الآية دالَّة على النَّفي بالنِّسبة إلى كل الأشخاص، وذلك يفيد المطلوب».

فالسِّيِّدة «عائشة» رحمها الله استدلّت بقوله تعالى: ]لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ الأنعام103. على نفي رؤية النَّبيّ e في «الإسراء والمعراج» وفي غيره وليس كما يحاول الكاتب أن يوهم قارئه في ذلك؛ «لأنَّ ما كان نفيه تنزيهاً يكون عاماً في الدُّنيا والآخرة».

واستدلَّت «المعتزلة» بآيات أخرى، من ذلك قوله تعالى: ]وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[الشورى51، فقالت: «ولو صحَّت رؤية الله تعالى لصحَّ من الله تعالى أنَّه يتكلَّم مع العبد حال ما يراه العبد، فحينئذ يكون ذلك قسمًا رابعًا زائدًا على هذه الأقسام الثَّلاثة، والله تعالى نفى القسم الرِّابع بقوله: وما كان لبشر أن يكلِّمه الله إلا على هذه الأوجه الثَّلاثة»، لكنَّنا نجدُ من أثبت الرُّؤية لم يكترث بزيادة قسم رابع، وإدخال ما ليس في القرآن وهو «الدُّنيا» على نحو ما يريد الكاتب إثباته في نقله عمَّن سبق، فقالوا: «نزيد في اللَّفظ قيدًا، فيكون التَّقدير: وما كان لبشر أن يكلِّمه الله في الدُّنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثَّلاثة»، ولا أعلم سبب ومنشأ هذا القيد وهذه الزِّيادة إلا التِّحريف بالتَّأويل.

ثمَّ يقع الكاتب في اضطراب نتيجة النَّقل دون تدبُّر فيقول: «رؤية الله في الآخرة لا خلاف فيها بين علماء أهل السُّنَّة والجماعة، دلَّ عليها القرآن الكريم والسُّنَّة المتواترة» ويتابع نقلاً عن الإمام «النَّوويّ» قوله: «رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين :اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ الْكَافِرِينَ . وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ : الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلا ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنَيْن.»

والاضطراب حاصل في أنَّه قد قال في مقدِّمته: «اتَّفقت عليه الأمَّة»، بينما هنا يقول: «علماء أهلِ السُّنَّة والجماعة»، ويؤكِّد ذلك ما أورده من قول «النَّوويّ» ووصفهم بأنَّهم من «أهل البدع»، وكأنَّه خارجون عن «الملَّة»، وما ذلك إلا نوع من أنواع العنصريَّة الدِّينيَّة التي ترى كلُّ فرقة منهم أنَّها «النَّاجية» وما سواها هالكة لا محالة، في حين نجدُ بعض أهل التَّفسير كـ«أبي حيَّان» الذي كان لاحقًا لـ«النَّوويّ» بقرن تقريبًا يورد نقلاً يرى الجميع مسلمين، وأنَّ الخلاف بينهم لا يمسُّ بالعقيدة التي تخرج من المِلَّة فيقول: «وقيل: الإدراك هنا الرُّؤية، وهي مختلف فيها بين المسلمين، فالمعتزلة يحيلونها، وأهل السُّنَّة يجوِّزونها»، فانظر معي أيِّها القارئ إلى جميل قوله، وحسن ردِّه، وعظيم تدبُّره، فقد جعل «المعتزلة»، و«أهل السُّنَّة» مسلمين، في حين نرى بعض العلماء من يكفِّرُ بعضهم بعضًا، لخلاف في مسألة فكريَّة مآلها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يعني نقدها أو البحث فيها خروجًا من «الملَّة» أو «كفرًا» إلا عند من يرى أنَّه على المحجَّة البيضاء، وأنَّه قد بلغ من الحقيقة ذروتها، ومن الكمال سنامه.

ونعتذر عن الإطالة في ذكر الخلاف في مسألة رؤية الله في الآخرة؛ لأنَّها مذكورة في علم «أصول الدِّين» وقد استوفت دلائل الفريقين، فمن أراد مطالعتها يرجع إليها في مظانَّها.

أمَّا القضية الثَّانية فهي «قضية الصِّراط في الآخرة» حيث قال الكاتب في ردِّه: «القرآن الكريم أشار إلى الصِّراط الأخرويّ، فقد دلَّت عليه بعض الآيات الكريمة، والذي جاء صريحًا في الأحاديث الصَّحيحة كقوله تعالى: «واهدوهم إلى صراط الجحيم»، وقوله تعالى: «وإن منكم إلا واردها، كان على ربِّك حتمًا مقضيًّا»، وهكذا فهمها الصَّحابة والعلماء» ثمَّ يورد كعادته نقلا عن سابق دون التَّدبُّر فيه وفي نظائره.

يظهر من قول الكاتب أنَّه واقع فيما حذَّر منه وهو العبث والتَّلاعب، إذ إنَّنا نقرُّ بلفظ «الصِّراط» في القرآن الكريم، لكنَّه لم يبيِّن الدَّليل على أنَّ المقصود منه «الجسر» المعلَّق فوق جهنَّم، فالآية الأولى التي ذكرها لا دليل فيها على قوله، والثَّانية المراد منها دخولهم فيها، وليس مرورهم فوقها على ما بيِّناه في مواضع أخرى؛ لأنَّ تتمَّة الآيات تؤكِّدُ ذلك فقال تعالى: ]وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [ مريم 71-72،  لكنَّ الكاتب من عبثه وتلاعبه جزم بقوله: «هكذا فهمها الصَّحابة والعلماء»، وهو نوع من التَّدليس؛ لأنَّ «الصَّحابة والعلماء» اختلفوا في معناها، فقيل: الورود هو الدَّخول، وهو مروي عن «جابر بن عبد الله»، واستدلَّ بما سمعه من رسول الله e، وهو قول «ابن عبَّاس»، و«ابن جريج»، حتى إنَّهم يروون عن «يونس» قراءته: «وإن منكم إلا واردها الورود الدُّخول»، وهي قراءة تفسير.

وقيل: الورود المرور على «الصَّراط» وهو مرويّ عن «ابن مسعود»، و«كعب الأحبار»، و«السُّدِّي»، وقيل: الإشراف عليها وغير ذلك من الأقاويل، وبعضها كما رأينا مرويّ عن «الصَّحابة» بخلاف ما ادَّعاه الكاتب.

والطَّامَّة الكبرى أنَّ الكاتب جريًا على سنَن سابقيه قاده إليه التَّقليد الأعمى جزم بأنَّ المرور على «الصِّراط» هو «عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة»، وكأنَّ من ذكرناهم ممن رأوا خلافه، ليسوا من «أهل السُّنَّة والجماعة»، وبناء على قوله علينا أن نضرب بعرض الحائط تفسير «الزَّمخشريّ» وكتبه؛ لأنَّه من «المعتزلة»،  و«الفخر الرَّازي»، وغيرهما،  ثم قال: «ولم ينكر الصِّراط إلا المعتزلة في القديم، والعقلانيِّون في العصر الحاضر، حكَّموا العقل، وجعلوه الأصل والفيصل، وقدَّموا العقل على الشَّرع، وتركوا نصوص الكتاب والسُّنَّة»، ولم يعلم أنَّه يقصد اتِّباعه لفهم السَّابقين لـ«الكتاب والسُّنَّة»، وليس نصَّهما.