أقلام القراء / بقلم د. محمد عناد سليمان

نصَّ «القرآن الكريم» على أنَّ عدَّة «الشُّهور» في «السَّنة» الواحدة اثنا عشر شهرًا، منها «أربعة حُرُم»، فقال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التَّوبة: 36.

القرانوقد وردتِ «الأخبار» و«الأحاديث» في تحديد هذه «الأشهر الأربعة»، على نحو ما نجده في «البخاريّ» برقم /3197/، ورقم /4406/، /5550/: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». ومثله في «صحيح مسلم» برقم /1679/. وسمِّيتْ «حُرُمًا»؛ لتحريم القتال فيها، حيث كانت العربُ تعظِّمهُنَّ وتحرِّمهُنَّ، حتى إنَّ الرَّجل لو لقي قاتل أبيه لم يهجْه.

ويظهرُ أنَّ العلماء متَّفقون على عدَّتها؛ لوجود نصَّ صريح في «القرآن الكريم)؛ لكنَّهم اختلفوا في تحديدها، لا سيَّما أنَّنا لا نجدُ نصًّا قاطعًا من «القرآن الكريم» يقضي على هذا الاختلاف، وما تناقلته «الأخبار»، و«الرِّوايات»، و«الأحاديث» لا تنهضُ دليلاً قويًّا تدفع إلى الجزم، وإنَّ مجرَّد البحث في معرفة صحَّة ذلك من عدمه قد يجعل الباحثَ عرضةً للرَّفض أو الاتِّهام.

وإضافة كلمة «مضر» إلى شهر «رجب» للتَّفريق بينه وبين «رجب ربيعة» كما يوضِّحه «ابن كثير» إذ يقول: «ليبيَّن صحَّة قولهم في رجب أنَّه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما كانت تظنُّه ربيعة من أنَّ رجب المحرَّم هو الشَّهر الذي بين شعبان وشوَّال، وهو رمضان اليوم، فبيَّن عليه الصلاة والسَّلام أنَّه رجب مضر، لا رجب ربيعة».

د. محمد عناد سليمان موقع إسرائيل بالعربيةوهنا لا بدَّ من طرح السُّؤال التَّالي، الذي يراه بعض المتعصِّبين ممنوعًا: إذا كان هناك شهر «رجب» لـ«مضر»، وهو بين «جمادى» و«شعبان»، والمعروف حاليًا باسمه، و«رجب» لـ«ربيعة» وهو بين «شعبان»، و«شوَّال» أي: المعروف حاليًا «رمضان» وهما قبيلتان تعيشان زمنًا واحدًا، وسنةً واحدة، فما هو سبب الاختلاف في تحديد الشَّهر عندها؟! ولمَ هو «رجب» عند «مُضر» و«رمضان» عند «ربيعة»؟ وإذا كانت تسميِّه «رجبًا» علمًا أنَّه واقع بين «شعبان» و«شوَّال»؟ وماذا كانت تسميِّ «رمضان» إذن؟!

وقد تقدَّم أنَّ ثلاثة من هذه الأشهر متواليات، وواحد فرْد وهو «رجب»، وهو أمر أصبحَ ثابتًا، ومعتقدًا أصيلاً لدى العامَّة، وبعض الخاصَّة؛ لكنَّ الحقيقة التي يبيِّنهُا «القرآن الكريم» نفسه تشير إلى خلاف ذلك، وأنَّ «الأشهر الحرم» كلّهنَّ متواليات متعاقبات لا فصل بينها، وباعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يتبيَّن لنا بوضوح صحَّة هذه الدَّعوى، وبطلان غيرها، وإن كانت مدعومةً ببعض «الأخبار»، و«الرِّوايات»؛ لأنَّ نصُّ «القرآن» أصحُّ وأولى بالإقرار كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ الجاثية: 6.

ولتوضيح ذلك كان لزامًا تدبُّر الآيات التي ذكرتْ هذه «الأشهر»، ومعرفة إذا ما اتَّفقَ الرَّواة والمفسِّرون على تحديدها؟ أم اختلفوا فيها كما جرت عليه عادتُهم؟!

وأوَّل ذكْر لها ورد في قوله تعالى في سورة «التَّوبة»: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ التَّوبة: 2، والمراد منها: المدَّة التي حدَّدها سبحانه وتعالى للمشركين كعهد لهم، لا يُستحلّ فيها قتلهم.

وكما أشرنا فقد تعارضتِ الأقوال في تحديدها في هذه الآية، فعن «الزُهريّ» أنَّها «شوَّال»، و«ذو القعدة»، و«ذو الحجَّة»، و«المحرَّم»، وقد ردَّ «ابن كثير» كلامه فقال: «وهذا القول غريب، وكيف يحاسبون بمدَّة لم يبلغهم حكمها، وإنَّما ظهر لهم أمرها يوم النَّحر».

وعن «قتادة»، و«السُّدِّي»، و«مجاهد» فيما يذكره «الطَّبريُّ»، و«ابن كثير» وأخرون : هي عشرون من «ذي الحجَّة»، و«المحرَّم»، و«صفر»، و«ربيع الأوَّل»، وعشر من «ربيع الآخر»، وقيل أيضًا: هي من عشر «ذي القعدة» إلى عشر «ربيع الأوَّل».

والظَّاهر من هذه الأقوال أنَّها أشهرٌ أربعة متتاليات متعاقبات، سواء أبدأت من «ذي الحجَّة»، أم من «ذي القعدة»، فلا فاصل بينها؛ لكنَّ الآية السَّابقة لم تبيِّن صفة هذه الأشهر الأربعة، وهل هي «حُرُم» أم لا، إلا أنَّ الآيات اللاحقة توضِّحُ ذلكَ وتؤكِّدُه؛ بل لا نرى إلا صفةً واحدة، اقترنت فيها في جميع المواضع التي ورد ذكرها في «القرآن الكريم»، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ التّوبة: 5.

وقد وقع التَّعارض أيضًا في تحديدها في هذه الآية كما في الآية السَّابقة، وفي ذلك يقول «ابن كثير»: «اختلفَ المفسِّرون في المراد بالأشهر الحرم ها هنا ما هي؟»، وذهب «الطَّبريُّ» إلى أنَّها «ذو القعدة»، و«ذو الحجَّة»، و«المحرَّم»، وهو يشير – كما أورد «ابن كثير» – إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ التوبة: 36.

بينما ذهب آخرون – ومنهم «الرَّازيُّ» – إلى أنَّها الأشهر التي مرَّ ذكرها في الآيات السَّابقة، فقال: «وأمَّا الأشهر الحرم فقد فسَّرناها في قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وهي: يوم النَّحر إلى العاشر من ربيع الآخر».

والمرجَّحُ عندنا أنَّها «الأربعة» التي أعطاها الله للمشركين كأجل وعهد، ويضعفُ ما ذهب إليه «الطَّبريُّ» ومن وافقه، يدفعُنا إلىُ ذلك ثلاثة أمور:

الأوَّل: «أل» العهديَّة في «الأشهر» جاءت للدَّلالة على مذكور قبلها في السِّياق نفسه؛ لأنَّه – كما يقول أبو حيَّان – «إذا تقدَّمت النَّكرة وذكرت بعد ذلك، فالوجه أن تذكر بالضَّمير، نحو: لقيتُ رجلا فضربته. ويجوز أن يُعاد اللفظ معرَّقًا بـ«أل»، نحو: لقيتُ رجلا فضربت الرَّجلَ، ولا يجوز أن يوصف بوصف يُشعر بالمغايرة، لو قلت: لقيت رجلآ فضربتُ الرَّجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته لم يجز؛ بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإن وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز، نحو: لقيت رجلا فضربتُ الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم؛ لأنَّ الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا أربعة أشهر؛ إذ التَّقدير: أربعة أشهر حرم، لا يتعرَّض إليكم فيها، فليس الحرم وصفًا مشعرًا بالمغايرة». ونظيره قول «ابن كثير»: «إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرَّمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأنَّ عود العهد على مذكور أولى من مقدَّر».

الثَّاني: أنَّ هذا القول منقول عن «ابن عبَّاس» في رواية «العوفي»، و«مجاهد»، و«عمرو بن شعيب»، و«محمد بن إسحاق»، و«قتادة»، و«السُّدِّي»، و«عبد الرحمن بن زيد بن أسلم» وزعموا أنَّ المراد بها «أشهر التَّيسير الأربعة المنصوص عليها في قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر.

الثَّالث: أنَّ ثلَّة من المفسِّرين قد ذهبوا هذا المذهب، كما وجدناه عند «الرَّازي»، و«البغويّ»، و«ابن كثير»، و«أبي حيَّان» الذي يقول: «والظَّاهر أنَّ هذه الأشهر هي التي أُبيح للنَّاكثين أن يسيحوا فيها»، ونظيره قول «الشَّنقيطيّ»: «السِّياق يدلُّ على أنَّ المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر».

وإذا كان الأمر كذلك، وكانت «الأشهر الحرم» كما بيَّنا، فمن أين جاءت إضافة شهر «رجب» وهو شهر «سرد»، أو «فرْد» على ما وصفوه، كما أشارت «الأحاديث» السَّابقة؟ وهل لها علاقة بهذه الآيات أم لا؟

لماذا اختلفت التَّفاسير في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ التوبة: 36؛ ليكون «رجب» أحدها؟ مع أنَّ الآيات في سياق واحد وفي سورة واحدة وهي «التَّوبة»؟! ألم يُشر المفسِّرون في الآيات السَّابقة وجزم بعضهم أنَّهنَّ متتاليات؟! ألم يشرْ «الطَّبريّ» إلى تفسير الآيات السَّابقة قبل قليل ولم نجد عنده ذكرًا لشهر «رجب»؟! بينما نجده وغيره قد زادوا «رجبًا» هنا، فقال: «وهنَّ رجب مضر، وثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرَّم، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله e».
.
حتى إنَّ بعضهم كـ«الرَّازي» قد نقل إجماعهم على ذلك فقال: «فقد أجمعوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرَّم، وواحد فرد، وهو رجب»، لماذا أخرجوا الآيات عن سياقها الذي هي فيه ليجزموا بأنَّ «الأربعة الحرم» هنا هي غير ما سبق تفسيرهم لها؟!

ولماذا نقل «الرَّازيُّ» الإجماع؟ ألم يذهب قومٌ – كما يذكر «ابن قتيبة» – إلى أنَّ الأشهر في هذه الآية هي ذاتها التي أجَّل المشركين أن يسيحوا فيها؟ ألم تسبق الإشارة إلى الأدلَّة التي بيَّنت أنَّ «رجبًا» ليس منها؟

والذي يبدو لي أنَّ زيادة شهر «رجب» قد جاءت نتيجة للتَّفسير الخاطئ لـ«الشَّهر الحرام» الوارد في آيات أُخرى، واختلافهم في تحديده، وميلهم إلى بعضها دون بعض، ومحاولة التَّمهيد لتفسير الآية اللاحقة من سورة «التَّوبة» المتعلِّقة بـ«النَّسيء»، والذي سيثبتُ لا حقًا أنَّه بعيد كلَّ البعد عن المعنى الذي نحَوْا إليه.

منها قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ البقرة: 194، وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ البقرة: 217، وقوله أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ المائدة:2، وقوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ المائدة: 97.

والذي يظهر في تفسيرهم لـ«الشَّهر الحرام» الوارد في هذه الآيات اختلافهم في تحديده، فمرَّة يجعلونه «ذا القعدة»، ومرَّة «رجبًا» ولم ينصَّ «القرآن الكريم» كما هو الحال في «الأربعة» على تحديد شهر بعينه أو تخصيصه، وما هو إلا من اجتهاداتهم المبنيَّة على «أخبار»، و«روايات» قد لا تصحُّ في مجملها.

قال «الطَّبريُّ» و«القرطبيّ»، و«ابن كثير» وآخرون: «الشَّهر الحرام بالشَّهر الحرام: ذا القعدة»، وهو مرويٌّ عن «ابن عبَّاس»، و«مجاهد»، و«مقسم»، و«السُّدِّي»، و«الرَّبيع»، و«الضَّحاك»، و«عطاء» وغيرهم.

بينما يقول «الطَّبريُّ» في قوله تعالى: ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ المائدة: 2 «وأمَّا الشَّهر الحرام الذي عناه بقوله: ولا الشَّهر الحرام فرجب مضر، وهو شهر كانت مضر تحرِّمُ القتال فيه». وقال «الرَّازيُّ»: «واعلم أنَّ الشَّهر الحرام هو الشَّهر الذي كانت العربُ تعظِّمُه وتحرِّمُ القتال فيه»، وهو يشير – كما «الطَّبريّ» – إلى شهر «رجب». وعللَّ «أبو حيَّان» تخصيصه بقوله: «وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة، وذي الحجَّة، ومختلفة في رجب، فشدَّد تعالى أمره. فهذا وجه التَّخصيص بذكره».

وهنا نسألُ: هل كانت العربُ مختلفةً في شهر «رجب» أم في معرفة توقيته؟ ألم تسبق الإشارة إلى أنَّ «مضر» تراه «رجبًا»، بينما تراه «ربيعة» «رمضان»؟! ألم يقل «ابن كثير»: «وقوله تعالى: منها أربعة حرم، فهذا ممّا كانت العربُ أيضًا في الجاهلية تحرِّمُه»؟! ألا يدلُّ هذا القول على أنَّهم متَّفقون عليها لا مختلفون؟!

وذهبَ بعضُ المفسِّرين كـ«الزَّمخشريّ» في آية أخرى إلى غير ذلك، ورأى أنَّ المقصود بـ«الشّهر الحرام» شهر «الحجّ»، ورُوي عن «عكرمة»، و«قتادة» أنَّه «ذو القعدة»، وهو اختلاف يشير إلى عدم الدِّقَّة في تحديد هذا الشَّهر، وأنَّ التَّأويل جاء اعتمادًا على «أخبار» و«روايات» منقولة.

والذي نرجِّحُه ونميل إليه في تفسير «الشَّهر الحرام» في المواضع الأربعة التي ورد فيها في «القرآن الكريم» أنَّه لا يتعلَّق بشهر بعينه، ولا يُخصِّصُ شهرًا دون آخر؛ لأنَّ المراد منه والله تعالى أعلم «المدَّة»، أي: مدَّة «الأشهر الأربعة الحرم» التي سبق ذكرها بكليَّتها؛ لأنَّ «أل» في لفظ «الشَّهر» تدلُّ على «الجنس».

وقد نبَّه غير واحدٍ من «المفسِّرين» على ذلك، واختاره «القرطبيُّ» فقال: «ولا الشَّهر الحرام: اسم مفردٌ يدلُّ على الجنس في جميع الأشهر الحرم»، ثم قال: «والمعنى: لا تستحلُّوها للقتال، ولا للغارة، ولا تبدِّلوها؛ فإنَّ استبدالها استحلال»، لكنَّه مع ذلك لم يخرج عن جعل «رجب» أحد هذه الأربعة. على الرَّغم من أنَّه قد نقلَ قولين في تحديدها عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ التوبة: 5. فقال: «والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد، وواحد فرد. وقيل: شهور العهد الأربعة، قاله مجاهد، وابن إسحاق، وابن زيد، وعمرو بن شعيب».

وذكر هذا الوجه أيضًا «الرَّازي» جوازًا فقال: «ولا الشَّهر الحرام: يجوز أن يكون إشارة إلى جميع هذه الأشهر، كما يطلق اسم الواحد على الجنس». ونظيره قول «أبي حيَّان» أيضًا «الشَّهر مفرد محلَّة بـ«أل» الجنسيَّة، فالمراد به عموم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرَّم، ورجب، والمعنى: لا تحلُّوا بقتال ولا غارة ولا نهب. قال مقاتل: وكان جنادة بن عوف يقوم ف سوق عكاظ فيقول: ألا إنِّي قد أحللتُ كذا، وحرَّمتُ كذا».

وجعله «ابن عاشور» القول الأظهر بعد أن بيَّن الحجَّة في ذلك فقال: «والمراد به جنسُ الشَّهر الحرام؛ لأنَّه في سياق النَّفي، أي: الأشهر الحرم الأربعة..فالتَّعريف تعريف الجنس، وهو كالنَّكرة يستوي فيه المفرد والجمع»، إلى أن قال: «والأظهر أنَّ التَّعريف للجنس».

وبناء على هذا الفهم والتَّفسير نستطيع أن نقول:

أولاً: إنَّ الأشهر الحرم الأربعة هنَّ أشهر متتاليات متعاقبات، لا فصل بينها، تبدأ من «ذي الحجَّة» وتنتهي في «ربيع الأوَّل»، وهي المهلة التي أعطاها الله للمشركين، ونُودى بها في «الحجّ»، ونصَّ «القرآن الكريم» عليها واصفًا إيَّاها بـ«الحرم» في قوله: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ التوبة: 5.

ثانيًا: أنَّ «النَّسيء» الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ التوبة: 37، يعني تحريمهم للمحلَّل وتحليلهم للمحرَّم، بأن يجعلوا «الأشهر الحرام» حلالا عامًا، ويحرِّمونها عامًا، يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ﴾ وهو «الشَّهر الحرام» الذي بيَّنا أنَّه عدَّة «الأربعة» وليس شهرًا مخصوصًا بعينه. وفي ذلك يقول «ابن بطَّال» في شرحه لـ«لبخاريّ»: «وزعم بعضُ النَّاس أنَّهم كانوا يستحلُّون المحرَّم عامًا، فإذا كان قابل ردُّوه إلى تحريمه». يؤكِّدُ ذلك مجيء لفظ ﴿عِدَّةَ﴾ لتدلَّ على عدد «الأربعة»، كما جاءت في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ دالَّة على عدد «الاثني عشر».

وقال في موضع آخر: «أنَّ العرب كانت تحرِّمُ الشُّهور الأربعة، وكان هذا ممَّا تمسَّكت به من ملَّة إبراهيم، فربَّما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم؛ فيكرهون أن يستحلُّوه ويكرهون تأخير حربهم».

لذلك أرى أنَّه من الواجب إعادةُ النَّظر في مفهوم «النَّسيء» في «القرآن» بعيدًا عن الموروث التَّاريخيّ الذي يؤكِّدُ بوضوح أنَّ «النَّسيء» لا يعني بحال ما قصدوا إليه، كما سنوضِّحُه في مقال خاصَّ، ممَّا أدَّى إلى تغيير مواعيد الأشهر ومواقيت المواسم، بحيث لم يعد «الرَّبيع» ربيعًا، ولا «الشَّوَّال» شوَّالا، وأدَّى إلى عدم الالتفات إلى «الأحد عشر» يومًا المنقوصة من كلِّ سنة، بعكس «الكبيسة» في التَّقويم الميلاديّ التي تعوِّض «ربع» يوم كلَّ «أربع» سنوات بزيادة «يوم» في نهاية شهر «شباط»، ولا يعني ذلك كما يفهمه بعض العلماء زيادة شهر على «الاثني عشر» شهرًا لتصبح «ثلاثة عشر»، فلا أحدَ يفهم من زيادة «يوم» كلَّ «أربع» سنوات، أنَّها تصبح «ثلاثة عشر شهرًا» بعد «400» سنة مثلاً حيث يكون مجموع زيادتها «ثلاثة أشهر وأيام»!! والله تعالى أجلُّ وأعلم.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *