تفسير القرآن بالقرآن الزَّكاة والصَّدقة
أقلام القراء / بقلم د. محمد عناد سليمان

ان المقالات المدونة في هذه الخانة تعبر عن اراء اصحابها, ولا تلزم الموقع بمحتواها

قد يتوهَّم القارئ من حيث عنوانُ المقال أنَّنا نكرِّرُ ما سبقنا إليه أهل العلم، أو أنَّنا نؤكِّد ما وصلوا إليه من نتائج وأحكام، لكنَّ المتابع لمنهجنا في ذلك يعلم أنَّ المراد بخلافه، ولا نبحث في ذلك لمجرَّد المخالفة؛ بل لعلمنا أنَّ كثيرًا ممَّا وصلنا فيه من التَّناقض والخلاف ما يدعونا إلى إعادة البحث والتَّمحيص فيه، وأنَّ أهل العلم قد اعتمدوا (الأصول) التي وصلتهم من سابقيهم على أنَّها الحقيقة المطلقة، والصَّواب الذي لا يحتمل أيَّ وجه من وجوه الخطأ.

القرانوقد بيَّنا سابقًا في غير موضع موقفنا من (الرَّجم) الذي بُني على أصل باطل، وكذلك ما دخل (الإسلامَ) من (خرافات) و(قصص) أصبحت لدى المسلمين من البديهيَّات التي تُعلمُ من (الدِّين) بالضَّرورة، كـ(المعراج)، و(علامات السَّاعة) وما يتعلَّق بها من نزول (عيسى) عليه السَّلام، وظهور (المهديّ)، وخروج (الدَّجَّال)، وما إلى ذلك ممّا لا أصل له إلا وضْع الوضَّاعين، ونسبةُ ذلك إلى النَّبي r ، ظلمًا وزورًا؛ إذ إنَّ النَّبيّ r لم يكن ليقول بخلاف ما أمره الله به في كتابه العزيز.

ومن هذه البديهيَّات أنَّهم يرون أنَّ (الزَّكاة) بمعنى (الصَّدقة) أينما وردَ ذكرها، وحيثما وقع الكلام عليها، ولا أرى سببًا في ذلك إلا التَّسليم بقول سابقيهم، دون بحث أو دراسة ما وصلوا إليه، وهل هو صحيح أم لا؟

وعند العودة إلى (القرآن) الكريم في محاولة جادَّة لمعرفة المقصود من (الزَّكاة) والمواضع التي وردت فيها، نجدُ أنَّها لم ترد بالمعنى الذي أقحموه فيها، أي: (الصَّدقة)، والتي بنوا عليها أحكامهم فيها، من (وقتها)، و(مقدارها) وغير ذلك مما سيأتي بيان خلافه اعتمادًا على منهج (تفسير القرآن بالقرآن).

ولعلَّ من أوضح الأدلَّة على أنَّ (القرآن) الكريم قد ميَّز بين (الزَّكاة) و(الصَّدقة) قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}البقرة177.

د. محمد عناد سليمان
د. محمد عناد سليمان

يظهرُ جليًا من هذه الآية أنَّ الله سبحانه وتعالى قد فصَّل (الصَّدقة) ومصارفها، ثم تلاها بقوله: (وآتى الزَّكاة)، فلو كانت (الصَّدقة) هي (الزَّكاة) نفسها لما كان للتِّكرار كبير فائدة؛ بل إنَّ (إيتاء الزَّكاة) هو مخالف للمعنى المعهود الذي وصلنا بمعنى (الصَّدقة)، وسنحاول توضيح خلال استقراء الآيات التي وردت فيها؛ لنتعرَّف المراد منها كما أراده سبحانه وتعالى في كتابه العزيز.

إنَّ المراد بـ(إيتاء الزَّكاة): النَّهج الصَّحيح، والصِّراط المستقيم، الذي لا عوج فيه، بحيث تسمو النَّفسُ البشريَّة بأخلاقها التي أمرها الله عزَّ وجلَّ أن تتحلَّى بها، لذلك كان من دعوة (موسى) عليه السَّلام لـ(فرعون) أن يتزكَّى فقال تعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى }النَّازعات18. وإنَّ الفلاح لمن زكَت نفسه، والخيبة لمن دسَّاها فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}الشَّمس9-10.

ولمعترض أن يقول: إنَّ هذه الآيات وأمثالها لا صلة لها بـ(الزَّكاة) التي عليها مدار البحث. والجواب عليه: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد بيَّن أنَّ (التَّزكية) هي نفسها (إيتاء الزَّكاة) فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}فصلت6-7. فـ(المشركون) استحقُّوا (الويل) لسببين: الأوَّل: أنَّهم لا يؤتون الزَّكاة، أي: لم يزكُّوا أنفسهم بما يصلحها. والثَّاني: كفرهم بالآخرة. فلمَ قدَّم سبحانه وتعالى (إيتاء الزَّكاة) على غيرها من العبادات لو كان المراد (الصَّدقة)؟! فدلَّ على ما ذكرناه.

بل إنَّ (إيتاء الزَّكاة) في (القرآن) الكريم قد جاء مقرونًا بـ(إقام الصَّلاة)، ولا نريد البحث في معنى (إقام الصَّلاة)؛ لأنَّ إقامتها شيء، وتأديتها شيء، والفرق بينهما كبير. من هذه المواضع قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}البقرة43، وقوله أيضًا مخاطبًا بني (إسرائيل): {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة83، وقوله أيضًا: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}البقرة110، وقوله: {لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}النساء162، وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}النور37، وقوله أيضًا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}المائدة55. ولعلَّ الآية الأخيرة من الآيات المشكلة التي اختلفَ (المفسِّرون) فيها من حيث كيفيَّة (إتيان الزَّكاة) و(هم راكعون) وهذا الخلاف ناشئ والله تعالى أعلم من فهمهم لـ(الزَّكاة) فيها بمعنى (الصَّدقة) وهو بعيد عن الصَّواب، حتى دفعهم خلافهم إلى اختلاف سياسيّ في أحقيَّة (الإمامة) بين (عليَّ بن أبي طالب) t، و(أبي بكر) t، وفي ذلك يقول (الرَّازي): (وأجمعوا على أن إيتاء الزَّكاة حال الرَّكوع لم يكن إلا في حقّ عليّ، فكانت الآية مخصوصة به، ودالَّة على إمامته من الوجه الذي قرَّرناه، وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة عليّ عليه السَّلام). ومثل هذا الكلام ما أشرنا إليه في غير موضوع من عبث يدُ (السِّياسة) في (تفسير القرآن) الذي وجب التَّنبيه عليه، والحذر منه.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى (إيتاء الزّكاة) من مستلزمات (التَّوبة) فقال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}التوبة5، وقال أيضًا: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }التوبة11،

ومن أظهرِ الأدلَّة على أنَّ (إقامة الصَّلاة) يختلف عن تأديتها، وأنَّ (الزَّكاة) هي (التَّزكية) قوله تعالى مخاطبًا زوجات النَّبيّ r : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33، فقد خصَّهنَّ سبحانه وتعالى بذلك؛ فلو كان المراد منها (الصَّدقة) لدخلنَ في العامِّ الذي ورد الأمر فيه في أكثر من موضع. والله تعالى أعلم.

وممَّا يدلُّ على أنَّ (الزَّكاة) هي تزكية النَّفس، وليس (الصَّدقة) أنَّ الله سبحانه وتعالى قد ذكرَ (الصَّدقة) بألفاظها الصَّريحة في (القرآن) الكريم تارة، وبألفاظ (القرض)، و(إيتاء المال)؛ و(الإنفاق) تارة أخرى، بل جعلَ (الصَّدقة) سبيلًا من سبل تطهير النَّفس في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}التوبة103.

ومثال الأوَّل قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}البقرة263، وقوله أيضًا: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}النّساء114، وغيرها.

ومثال الثَّاني على التَّرتيب، فأمَّا (القرض) فمنه قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}البقرة245، ونظيره: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}الحديد11.

وأمَّا (إتيان المال) فمنه قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}البقرة 177، وظاهر من هذه الآية الجمع بين (الصَّدقة) التي هي إخراج (المال) وبين (إيتاء الزَّكاة)، ونظيره قوله تعالى أيضًا: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}المجادلة13.

وأمَّا (الإنفاق) فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}البقرة254، وقوله أيضًا: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة262، وقوله أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}البقرة267، ولا يخفى على أحدٍ ما توضِّحه هذه الآية من ضرورة (الإنفاق) وسبله، فالأوَّل (المال)، والثَّاني: ما تخرجه (الأرض) من ثرواتها.

وقد جمعَ سبحانه وتعالى المعنيين (الصَّدقة) و (الإنفاق) في قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}المنافقون10.

وما ذهب إليه (الفقهاء) من تحديد (وقتها) فلا أصل له إلا فهمهم الذي أراه ابتعد كثيرًا عمَّا نصَّ عليه (القرآن) الكريم، فالله عزَّ وجلَّ لم يحدِّد (وقتًا) لصرْف (الصَّدقة)، وإنفاق (المال)؛ بل تركه مفتوحًا، ولم يقيِّده كما فعل (الفقهاء) أنفسهم، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}البقرة274، فالمنفقُ ممَّا رزقه الله مخيِّر أن ينفق ليلا، أو نهارًا، سرًّا وعلانية، وله الأجر عند ربَّه جلَّ وعلا. ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}فاطر29.

وقد ينفقون في أيِّ حال من العسر، أو اليسر كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}آل عمران134،  بشرط أن يكون هذا (المال) حلالا طيِّبًا كما نصَّ عليه تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}البقرة267.

ولا شكَّ أنَّ (الإنفاق) يكون ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ، فقال تعالى: { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}البقرة272.

وما ذهبوا إليه أيضًا من تحديد (قدْرها)، ليس بصحيح؛ لأنَّ (القرآن) الكريم لم ينصَّ على مقدار (الصَّدقة) أو مقدار ما ينفقه العبد ممَّا رزقه الله سبحانه وتعالى؛ بل إنَّ الجواب جاء شافيًا كافيًا لا شبهة فيه على سؤال النَّاس النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن مقدار (الإنفاق)، فكان الأمر الإلهي بتحديد ذلك، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}البقرة219.

وفي ذلك يقول (الفخر الرَّازيّ): (اعلم أنَّ هذا السُّؤال قد تقدَّم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف، وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكميَّة، قال القفَّال: قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه: ما فلان هذا؟ فيقول: هو رجل من مذهبه كذا، ومن خلقه كذا. إذا عرفت هذا فنقول: كان النَّاس لما رأوا الله ورسوله يحضَّان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كلُّ المال أو بعضه، فأعلمهم الله أنَّ العفو مقبول). أمَّا (العفو) فهو (الزَّيادة) كما قال (الواحديّ)، وزاد (القفَّال): (العفو ما سهل وتيسَّر ممَّا يكون فاضلاً عن الكفاية).

وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى في (القرآن) مصارفها، وطرقها، بنوعيه الخاصّ والعامّ، وبيَّن أيضًا أجرَ المنفقين في سبيله، كما بيَّن أيضًا الأمور التي تمنع من قبول (الصَّدقة)، وليس هذا مجال ذكرُها.

وبعد أن أوضحنا أنَّ معنى (إتياء الزَّكاة): (تزكية) النَّفس البشريَّة، وليست (الصَّدقة) كما فهمها (الفقهاء)، وأهل العلم، فإنَّنا نرى ضرورة إعادة النَّظر في أحكامهم التي أصَّلوها بناء على ذلك الفهم، وهو فهم خاطئ بلا شكّ كما دلَّت على ذلك الآيات القرآنيَّة، فلا وقت لـ(لصَّدقة)، ولا (قدْر) لها، والله تعالى أعلم.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *