أٌقلام القراء / د. محمد عناد سليمان

نشر أحد الأخوة الأفاضل مقالا بعنوان: «لماذا لا يكفينا القرآن الكريم؟ ولماذا تقيدوننا بالسُّنَّة النَّبويَّة؟»، يدافع خلالها عمَّن يحاول بزعمه تقويض «السُّنَّة النَّبويَّة»، ويردُّ فيها على ما يراه «امتدادًا للحملات الغربيَّة التي تريد اجتثاث هذا الدِّين، والتَّشكيك بمصادره الرئيسيَّة» ثم ادَّعى أنَّه جواب على «ذلك الذي يزعم أنَّه متَّبعٌ للقرآن، والقرآن منه براء».

وشرع الكاتب الفاضل في تبيان العلاقة بين «القرآن» الكريم، و«السنَّة النَّبويَّة»، وأنَّها «علاقة متلازمة، وعلاقة شرح وتفصيل لما أمر الله به في القرآن نفسه»، وأتبع قائلا: «ثم ترك التَّوضيح والبيان للتَّفاصيل للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم» مستدلاً بقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}النَّحل44.

وإن كنَّا نثني على محاولة الكاتب الدِّفاع عن «السُّنَّة» التي هي من حيث المصطلح لم تكن على عهد «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم، إلا أنَّه وقع فيما قد يكون حجَّة عليه، لا حجَّة له فيما حاول الوصول إليه، وقد أحسنُ الظَّنَّ في أنَّه لم يكن يريد «التَّدليس»، و«التَّزييف» في الحقائق، مع علمنا المسبق قول العرب: «حبَّك الشَّيء يعمي ويصمُّ»، لكن هذا يكون في غير العلم، والبحث، والدِّراسة.

وأوَّل ما أراه وهمًا وقع فيه الباحث عندما جرى على نهج السَّابقين، والسَّير على خطاهم فيما اجتهدوا، على أنَّه الحقيقة المطلقة، والمسلَّمة التي لا يجوز المساس بها، أو تناوُلُها بحثًا ودراسة ومناقشة، وجعل من «البيان» الوارد في قوله تعالى السَّالف من سورة «النَّحل» منسوبًا إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو كما يراه «ما هو فعليّ، ومنه ما هو قوليّ، ومنه ما هو تقريريّ».

القران

ولا شكَّ أنَّ هذه التَّصنيفات كما أشار هي من اجتهاد أهل العلم ممن سبقنا، ولا يعني بالضَّرورة صوابها، خاصَّة إذا ما تدبَّرنا الآيات التي تحدَّثت عن «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم في «القرآن» الكريم نفسه، وأورد الكاتب قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}النور54. وليته تدبَّر الآيات الواردة في ذلك، وبيِّن للقارئ معنى «الطَّاعة» في ذلك! لا سيّما أنَّها قد اقترنت في بعض الآيات بطاعة «أولي الأمر»، ولا شكَّ أنَّ في إعادة البحث خير كثير، وحبَّذا لو بيَّن الباحث أيضًا الفرق بين لفظي «النَّبيّ»، و«الرَّسول» كما نصَّ عليه «القرآن» الكريم نفسه، فنجده حينًا يخاطب محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنفال64، وقوله: «{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }الأحزاب1، وحينًا آخر بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }البقرة214، وغيرها من الآيات، ولا شكَّ أنَّ إدراك الفرق بينهما يوصلنا إلى معنى «الطَّاعة» الواردة فيها.

ثمَّ تعرَّض الباحث إلى نوعين من «الوحي» الذي نزل على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهما كما يقول: «وهذا الذي أوتيه وحي من الله «لا ينطق عن الهوى»: وحي جاء عبر القرآن الكريم صريحًا. ووحي جاء عبر السُّنَّة والأحاديث الصَّحيحة التي جاءتنا عنه، والتي أخبرنا عنها القرآن أنَّها منزلة من الله تعالى على رسوله، كما تنزَّل عليه القرآن، فقال سبحانه: «وأنزلنا عليك الكتاب والحكمة»، والحكمة هي سنَّته الشَّريفة».

وثمَّة هَنَات سَقَط فيها الباحث، من حيث لا يشعر؛ لأنَّه كما أشرنا يجري على ما جرى عليه السَّابقون من دون تمعُّن، أو تدبُّر، وإغفال بعض الوجوه المحتملة والتي قد تكون صحيحة، تتناسب مع السِّياق الذي ترد فيه «الآيات القرآنيَّة»؛ ومن هذه الهنات:

أولاً: أنّ الباحث وقع في خطأ عظيم عندما نسب قوله: «وأنزلنا عليك الكتاب والحكمة» إلى الله سبحانه وتعالى، وأنَّها آية من «القرآن الكريم»، و«القرآن» بلا شك بريء منها، وهو تقوَّل على الله، لا ينبغي أن يصدر ممَّن يتصدَّى للدِّفاع عن «الدِّين»، أو«السُّنَّة» كما يزعم.

ثانيًا: أنَّ الباحث جعل الضَّمير في قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}النَّجم3، عائدًا إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إخضاع اللَّفظ وليِّه ليجعله مناسبًا لـ«السُّنَّة» وهو خلاف ما عليه الآية، وما ورد من أقوال السَّلف الذين يحاول الباحث الدِّفاع عنهم، فقد أورد «الطَّبريُّ» عند تفسيرها قوله: «وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه. إن هو إلا وحي يوحى. يقول: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه»، ويقول «القرطبيُّ»: «وما ينطق عن الهوى: قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه». ويقول «الرَّازيُّ»: «الظَّاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسِّرين، وهو أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق إلا عن وحي، ولا حجَّة لمن توهَّم هذا في الآية»، ولا نعلم كيف جزم الباحث بهذه الحجَّة؟! وتتمَّة الآيات بخلافها، وقد فصَّل فيها «الرَّازيّ» حيث جاء: «لأنَّ قوله تعالى: إن هو إلا وحي يوحى: إن كان ضمير القرآن فظاهر. وإن كان عائدًا إلى قوله، فالمراد هو القول الذي كانوا يقولون فيه: إنَّه شاعر، وردَّ الله عليهم فقال: وما هو بقول شاعر، وذلك القول هو القرآن».

وما ذهب إليه الباحث هو تفسير لبعض المتأخِّرين الذين حاولوا كما حاولَ هو أن يجعلوه للنَّبي صلى الله عليه وسلم في كلِّ ما يقوله كما فعل «البغويّ»، و«ابن كثير» وغيرهما.

ثالثًا: أنَّ الباحث جعل «الحكمة» في الآية التي نسبها إلى الله سبحانه وتعالى، بمعنى «السُّنَّة النَّبويَّة»، وليست من تلقاء نفسه؛ بل هي ما قاله «الشَّافعيّ» رحمه الله، و«قتادة» وعليه درج بعض «المفسِّرين» كـ«الطَّبريّ»، و«القرطبيّ»، و«أبي حيَّان» وغيرهم، وأكتفي بنقل ما أورده «أبو حيَّان» في تفسيره لنعلم اختلافاتهم في معنى «الحكمة»، حيث جاء: «والحكمة: الشَّريعة وبيان الأحكام. وقال قتادة: الحكمة: السُّنَّة، وبيان النبيّ الشَّرائع. وقال مالك وأبو رزين: الحكمة: الفقه في الدِّين، والفهم الذي به لا يكون الرجل حكيمًا حتى يجمعها. وقيل: الحكم والقضاء. وقيل: ما لا يعلم إلا من جهة الرَّسول. وقال ابن زيد: كلُّ كلمة وعظتك، أو دعتْك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقال بعضهم: الحكمة هنا الكتاب. وكررها توكيدًا. وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب: كلُّ صواب من القول ورث فعلا صحيحًا فهو حكمة. وقال يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين حتى يروح عنها وهج الدُّنيا. وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها. وقيل: كلُّ قول وجب فعله. وهذه الأقوال في الجملة كلُّها متقاربة، ويجمع هذه الأقوال قولان: أحدهما القرآن، والآخر السُّنَّة».

وبالعودة إلى منهجنا في «تفسير القرآن بالقرآن» نرى أنَّ هذه الأقوال والتَّوجيهات بعيدة، ولا تصحُّ في معناها كما ينصُّ عليه «القرآن الكريم»، لأنَّ «إبراهيم» عليه السَّلام قد دعا ربَّه قائلا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}البقرة129، وقد استجاب له سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }البقرة151، ولا يخفى على أحد أنَّ «إبراهيم» لم يكن يقصد «السُّنَّة» كما فهما الباحث وغيره ممَّن سبقه، لذلك رأينا اختلاف العلماء في تفسيرها، ويؤكِّد ذلك تقديمها على «التَّوراة»، و«الإنجيل» في قوله تعالى:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }آل عمران48، ممَّا يدعونا إلى البحث بدقَّة عن معنى «الحكمة» من خلال استقصاء الآيات التي وردت فيها في «القرآن»، وهو ما عزف عنه الباحث.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *