أقلام القراء/ د. محمد عناد سليمان 

توافق النَّاس عامَّتهم وخاصَّتهم على أنَّ «الفتوى» تبيانُ ما أشكلَ عليهم من الأحكام الشَّرعيَّة، وهي لا تخرج بذلك عن معناها «اللُّغويّ»؛ لأنَّها مصدرٌ بمعنى «الإفتاء»، وتُجمع على «فَتَاوى»، و«فَتَاوي»، و«الاستفتاء» قد تأتي طلبًا للجواب عن أمر مُشكِل كقوله تعالى: ]سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً}الكهف22، أي: لا تطلب الفُتيا فيهم من أحد.

القرانوقد يأتي «الاستفتاء» بمعنى السُّؤال فقط، على نحو ما نجده في قوله تعالى: ]فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ}الصَّافات11، قال «أبو حيَّان»: «الاستفتاء نوعٌ من السُّؤال، والهمزة وإن خرجت إلى معنى التَّقرير، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام، أي: فاستخبرهم»، ومنه قوله أيضًا: ]فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}الصَّافات149.

ولعلَّ ورود هذين الموضعين فقط من طلب السُّؤال في سورة «الصَّافات» جاء من أجل حصر هذا المعنى بهما، ولا يُقصد منه معنى آخر، فقد افتتح تعالى «هذه السُّورة بإثبات ما يدلُّ على وجود الصَّانع، ويدلُّ على وحدانيَّته، وهو خلْق السَّموات والأرض، وما بينهما، وخلْق المشارق والمغارب، فلمَّا أحكم الكلام في هذا الباب فرع عليها إثبات القول بالحشر والنَّشر والقيامة»، فناسب معنى «السُّؤال» السِّياق الذي عليه «الآيات» والمراد منها في الإثبات.

وليس القصدُ هنا التَّفصيل في معنى «الفتوى» لغة واصطلاحًا، أو بيان الشُّروط الواجب توافرها في «المفتى»، أو الوقوف على إظهار ضرورتها بين فرض «العين»، أو «الكفاية»، وإنَّما تبيان الجهة التي يحقُّ لها «الفتوى» من منظور «القرآن الكريم» نفسه، اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن».

وحتَّى نصل إلى المراد من ذلك، كان لزامًا علينا عرضُ «الآيات» التي ورد فيها معنى «الفتوى» بجذرها ومعناها، وقد تقدَّم ذكر الآيتين من سورة «الصَّافات»، ووضَّحنا أنَّ المراد منهما «السُّؤال» لإثبات وحدانيَّة الله عزَّ وجلَّ، ولا قرينة تشير من قريب أو من بعيد إلى علاقة هذه «الآيات» بالمعنى المراد من «الفتوى» وهو إظهار الحكم الشَّرعيّ في مسألة ما على ما يفهمه كثيرٌ من النَّاس.

والأمر نفسه في الآية الحادية عشرة من سورة «الكهف» إذ يبيِّن «القرآن الكريم» أنَّ المراد هو عدم طلب الإجابة عن حالة أهل «الكهف» من حيث عددُهم؛ ولا يعني ذلك أنَّ العدد بقي مجهولاً؛ بل لسدِّ الباب، ومنع الدٌّخول في اختلاف العدد؛ لأنَّ «القرآن» بيَّن عددهم وهو «سبعة»، فبدأ بذكر ثلاثة أقوال لا رابع لها، ونصَّ على أنَّ القولين الأولين باطلان بدليل قوله تعالى بعد ذكرهما «رجْمًا بالغيب»، والرَّجم: الظَّنّ، ثمّ ذكر القول الثَّالث دون قرينة تشير إلى الظَّن؛ فدلَّ على أنَّه المراد، وفي ذلك يقول «ابن عبَّاس»: «ما يعلمهم إلا قليل، وأنا من ذلك القليل الذي يعلمهم، كانوا سبعة».

د. محمد عناد سليمان موقع إسرائيل بالعربيةولمعترضٍ أن يقول: كيف أقررتُم أنَّ عددهم «سبعة»، والله تعالى يقول: «قل ربِّي أعلمُ بعدَّتِهم»؟ نقول: وإن كان الله قد ذكر علمه بهم، إلا أنَّه بيَّن في الوقت نفسه وفي السِّياق ذاته أنَّ هناك قليلاً ممَّن يعلم عددهم، وليس محصورًا به سبحانه وتعالى، ومثل هذا الأسلوب قد ورد في غير موضع من «القرآن الكريم»، فقال تعالى: ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}الكهف25، حيث بيَّن الفترة الزَّمنيَّة التي مضت عليهم في «الكهف» بيانًا واضحًا لا مِراء فيه، إلا أنَّه أتبع ذلك قائلا: ]قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}الكهف26، حيث أسندَ العلم بالمدَّة لنفسه جلَّ وعلا مع تقدُّم بيانه لها.

والعلَّة في طلب عدم «استفتاء» أحدٍ عنهم، وعن حالهم، والمراد «أهل الكتاب» كما أورده ثلَّة من المفسِّرين كـ«الطَّبريّ»، و«القرطبيّ»، و«ابن كثير»، العلَّة هي اتِّباع الظَّنّ من الجميع، ولن تجدَ يا «محمَّد» e جوابًا شافيًا كافيًا عنهم إلا بما أوردناه في «القرآن»، وكفى به خبيرًا.

ومن المواضع التي ورد ذكر «الفتوى» وطلبها قوله تعالى: ]وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}يوسف43، وفي السُّورة نفسها فيما يتعلَّق بـ«الرُّؤيا» وردَ قوله تعالى: ]يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}يوسف46، وقوله أيضًا: ]قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}النمل32، ولا يخفى على أحدٍ أنَّ المراد من هذه الألفاظ ونحوها لا يتَّصل بالمعنى المراد من «الفتوى» وهو استنباط حكم شرعيٍّ يصبح أساسًا ومعيارًا للنّاس كافَّة.

لكنَّ «القرآن الكريم» لم تخلُ آياته من «الفتوى» بمعنى «الاستنباط»، فقد ورد في موضعين منه في سورة «النِّساء»، وهما قوله تعالى: ]وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}النِّساء127، وقوله أيضًا: ]يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}النِّساء176، والذي يدلُّ على أنَّ هذه الآيات تختصُّ بالأحكام الشَّرعيَّة أنَّها وردت في سياق تبيان أحكام «النِّساء» وتبيان حالتهنَّ في «المواريث»، وفي ذلك يقول «أبو حيَّان»: «وقد عرَضَ هنا في هذه السُّورة أن بدأ بأحكام النِّساء والمواريث واليتامى، ثمَّ ثانيًا بذكرِ شيء من ذلك في هذه الآية، ثمَّ أخيرًا بذكر شيء من المواريث أيضًا. ولما كانت النِّساء مطرحًا أمرهنّ عند العرب في الميراث وغيره، وكذلك اليتامى أكَّد الحديث فيهنَّ مرارًا؛ ليرجعوا عن أحكام الجاهليَّة». ومعنى «يفتيكم»: «يبيِّن لكم حال ما سألتم عنه وحكمه».

إنَّ التَّدبُّر في هذه الآيات، وتفسيرها اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» يوضِّح لنا أنَّه لا يجوز لأحد أن يُفتي بحكم من الأحكام الشِّرعيَّة إلا في ضوء ما بيَّنه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، يؤِّيدُ ذلك الاستقراءُ الكامل للآيات التي ورد فيها «السُّؤال» و«الجواب»، حيث اقترنت بكلمة «قل» والمقصود بها النَّبيّ e، من ذلك قوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}البقرة189، وقوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}البقرة215، وقوله أيضًا: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}البقرة217، وقوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}البقرة219، وقوله: ]فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}البقرة220، وقوله: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ}البقرة222، وقوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ}المائدة4، وقوله تعالى: ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}الأعراف187، وغيرها من الآيات الكثيرة.

إلا أنَّ لفظة «قُل» سقطت من «الجواب» لمَّا تعلَّقَ «السُّؤال» بـ«ربِّ العالمين»، في قوله تعالى: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}البقرة186، ليعلمَ النَّاس أن لا واسطة بينهم وبين الله عزَّ وجلَّ، ويكفيهم أن يخصُّوه بالدُّعاء ليتفضَّل عليهم بالإجابة.

لكنَّ الحال اختلفتْ اختلافًا ظاهرًا لما تعلَّقَ الأمرُ بالاستفتاء عن حكم شرعيٍّ، وتبيان حالة النِّساء الشَّرعيَّة في «المواريث»، فلم يكتفِ «القرآن الكريم» بلفظ «قل» كما هو الحال في عشرات «الآيات» الأخرى التي سبق ذكرُها، ولم يترك الإجابة للنَّبيّ e؛ بل نصَّ صراحة على أنَّ «المفتي» في الأحكام الشِّرعيَّة هو الله جلَّ جلاله، فأضاف اسمه سبحانه وتعالى بعد لفظ «قُل» فقال تعالى: ] قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ}في الموضعين، في إشارة واضحة إلى أنَّه لا ينبغي لأحد أن يفتي في الأحكام الشَّرعيَّة، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد بيَّنها في كتابه أوضح بيان، ولم يتركها عرضة للمجتهدين من البشر، ولو ألزمنا أنفسنا بذلك لأغلقنا الأبواب الكثيرة من الخلافات بين العلماء، الذين يجيزون أمرًا، ويمنعه آخرون، ويحلُّون أمرًا، ويحرِّمه آخرون، حتى إنَّ «النَّفس البشريَّة» أصبحت مرهونة بخلافاتهم، فيحلُّ قتلها عند بعضهم، وتحرمُ عند بعضهم الآخر في حالة من الفوضى الدِّينيَّة التي لن تنتهي إلا بالعودة إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ بتجرُّد عمَّا ثبت وترسَّخ في الأذهان. والله تعالى أعلم.

כתיבת תגובה

האימייל לא יוצג באתר. שדות החובה מסומנים *