أقلام القراء /  د. محمد عناد سليمان

[widgets_on_pages id=1]

يتوهَّم من يقرأ عنوان المقال، أنَّنا نكرِّرُ سابقًا، أو نؤكِّد خبرًا تاريخيًّا، أو نعيد رأيًا، فقد اعتاد كثيرٌ من المتابعين أن يوفِّر على نفسه عناء القراءة الكاملة ليطبِّق قولهم: «المكتوب مبيِّن من عنوانه»، إلا أنَّ الأمر بعكس ذلك، إذ نحاول أن ندرس ظاهرة «السَّاعة» من خلال «القرآن الكريم» نفسه بعيدًا عن الرَّواسب التي مكثَتْ في العقول، حتى أصبحت حاجزًا منيعًا يحول دون النَّظر في «الآيات» نفسها، وهي بلا منازع أقوى الأدلَّة والبراهين على صحَّة الشَّيء أو بطلانه.

ويأتي في مقدِّمة هذه الرَّواسب ما يعتقده العامَّة وكثيرٌ من أهل العلم ويؤمنون به من أنَّ لـ«السَّاعة» أشراطًا وعلاماتٍ، وقد بيِّنا بعضها في غير موضع، كـنزول «عيسى» عليه السَّلام، وخروج «الأعور الدَّجَّال»، وظهور «المهديّ» وغير ذلك ممَّا يسقط عند البحث والتَّمحيص، ومقارنة ذلك بـ«القرآن الكريم»، وما هي إلا من وضْع الوضَّاعين العابثين الذين بذلوا جهدهم في محاولة تحريف «الدِّين» وحشْوِهِ بـ«الخرافات» لتصبحَ بعد فترة من الزَّمن امتدَّت على عقود «معتقدات إيمانيَّة» يُكفَّر من ينكرُها، أو يحاول إعادة النَّظر فيها.

وسنخصِّصُ الحديث عن «السَّاعة» كما وردت في «القرآن الكريم» اعتمادًا على منهجنا في تفسير «القرآن بالقرآن»، وهو منهج من أجلِّ ما يوضِّح كثيرًا من معتقدات «الأمَّة» وقضاياها «الديِّنيَة»، وتبيان مقاصد «الأحكام» و«الحدود» كما نصَّ عليها «القرآن» نفسه.

ولا شكَّ أنَّ «السَّاعة» أمر عظيم، وخطْب جلَل، وقد أشار «القرآن الكريم» إلى ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}الحج1- 2.

وبما أنَّ لها من العظمة والهول ما لها فمن الطَّبيعيّ جدًّا أن يسارع «الصَّحابة» رضوان الله عليه وغيرهم من النَّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن هذا الحدث المميَّز الذي هو واقع لا محالة كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}الحجر85، وقال أيضًا: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}طه15، وقال في موضع آخر: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}الحج7.
ولم يغفل «القرآن الكريم» هذا السُّؤال؛ بل وضَّحه وبيَّنه أكمل توضيح، وأدقَّ بيان، وقبل الولوج إلى «الآيات» التي تحدَّثت عن ذلك، وأجابت عن السُّؤال نفسه، واعتمادًا على منهج تفسير «القرآن بالقرآن» كان لزامًا علينا أنَّ نقارن بينها وبين «الآيات» الأخرى التي أجابت على أسئلة أخرى هي أقلُّ شأنًا من هذا الحدث العظيم.

فقد سألت «الأمَّة» رسولها الكريم صلوات الله عليه عن أمور كثيرةٍ «دنيويَّة»، و«دينيَّة» أثبتها «القرآن» لتبقى راسخةً ما دامت السَّموات والأرض، وسنذكرها حسب ورودها في «السُّوَر».

1-«الأهلَّة» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}البقرة189.

2-«الإنفاق» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}البقرة215.

3-القتال في الشَّهر «الحرام» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}البقرة217.

4-«الخمر» و«الميسر» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}البقرة219.

5-«اليتامى» في قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}البقرة220.

6-«المحيض»: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}البقرة222.

7-«الحلال من الطَّيِّبات» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}المائدة4.

8-«الأنفال» في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}الأنفال1.

9-«الرُّوح» في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}الإسراء85.

10-«ذو القرنين» في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً}الكهف83.

11-«الجبال» في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً}طه105.

إنَّ من يتدبَّر هذه «الآيات» وغيرها يعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن الإجابة عمَّا ورد فيها من أسئلة، ولم يتركها مرهونة باجتهاد البشر، أو أسيرة لتأويلات «المفسِّرين»، ويلاحظ في هذه «الآيات» أمران:

الأوَّل: مجيء الاستفسار بصيغة السُّؤال بلفظ «يسألونك»، و«الكاف» بلا شكَّ هي «كاف» الخطاب، والمقصود هو «النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم.

الثَّاني: مجيء الجواب بلفظ «قل» وهو أمْرٌ منه سبحانه وتعالى لـ«النَّبيِّ» صلى الله عليه وسلم، لينقلها إلى السَّائلين في عصره، والسَّائلين من بعده إلى يوم «السَّاعة».

وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ ثمَّة «آية» أخرى ورد فيها السُّؤال، بصيغته السَّابقة، في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}البقرة186، سقطَ في جوابها لفظ «قل» ليبرهن لنا سبحانه وتعالى أنْ لا وساطة بين «العبد» و«ربِّه»، وفي ذلك ردٌ على من يدَّعي «وساطة» «الأنبياء»؛ و«الأولياء»؛ و«الصَّالحين»، وما أراها إلا من مدخولات «العقائد» السَّابقة التي وصلت مشوَّهة بعد أن كانت صحيحة أصيلة.

ومن خلال الأسئلة السَّالفة نجدُ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أجاب عليها، وبيَّنها، إلا أنَّ الحال عند السُّؤال عن «السَّاعة» قد جاء مختلفًا اختلافًا كثيرًا، إذ لم نجد جوابًا وتوضيحًا؛ بل استأثر سبحانه وتعالى بالجواب لنفسه، واحتفظ بعلم «السَّاعة» عنده، ولم يطلعْه على أحد من خلْقِه، وقد أكَّد ذلك في مواضع كثيرة من «القرآن الكريم» كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}الأعراف187، وقوله أيضًا: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً}الأحزاب63، وقوله أيضًا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}النّازعات42.

يظهرُ من هذه «الآيات» ورود الاستفسار عن «السَّاعة» كما هو الحال في المواضيع السَّابقة بلفظ «يسألك»، و«الكاف» لخطاب «النَّبيِّ» صلى الله عليه وسلم، وكذلك الجواب جاء بصيغة الأمر لـ«النَّبيِّ» صلى الله عليه وسلم بلفظ «قل»؛ لكنَّ بيان حال «السَّاعة» وتوضيحها بقي معلَّقًا بـ«علم» الله عزَّ وجلَّ، يؤكِّد ذلك ما ورد من «آيات» أخرى خلتْ من السُّؤال والجواب، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}لقمان34، وقوله أيضًا: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}الزخرف85، بل نجده أكَّد أنَّ علمها راجع إليه وحدَه سبحانه وتعالى فقال: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ}فصلت47.

وبالمحصِّلة نكاد نجزم بأنَّ كثيرًا من «الأحاديث»؛ و«الأخبار»؛ و«الآثار»؛ التي تتحدَّث عن «السَّاعة» و«أشراطها» كـ«نزول عيسى» عليه السَّلام، وخروج «الدجَّال»، وظهور «المهدي» وغيرها ممَّا يتَّصلُ بـ«الفتن» وربطها باقتراب «السَّاعة» ما هي إلا ضرْبٌ من الوهم والخيال، نُسبِتْ ظلمًا وزورًا لـ«النَّبيّ» صلى الله عليه وسلم الذي أدَّى «الأمانة»، وبلَّغ «الرِّسالة» كما أمره الله سبحانه وتعالى، وما كان ليجتهد من تلقاء نفسه بعد أن أخبره الله عزَّ وجلَّ صراحة باستئثاره بعلمها لنفسه، إضافة إلى أنَّها لا تأتي إلا «بغتةً».

د. محمد عناد سليمان